في أقل من عامين، قبل انتخاب فرانسوا هولاند وبعده، تدخلت فرنسا ثلاث مرات في افريقيا: مرة عندما شاركت (الى جانب حلفائها) في إسقاط معمر القذافي، مرة ثانية عندما اعتقلت لوران غباغبو الرئيس السابق لساحل العاج الذي رفض الاعتراف بفوز خصمه، والمرة الثالثة في مالي.
لكن التدخل هذه المرة مختلف لأسباب عدة أهمها أنه قد يكون مكلفاً وواسع النطاق، الأمر الذي يضع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أمام التحدي. والتحدي متعدد الجوانب وفرنسا تدرك جيداً أن مكانتها كقوة عالمية مهددة هذه المرة إذا هي لم تحسن الأداء.
ومن الواضح أن «الدفاع الأوروبي المشترك» لا يزال مجرّد مشروع لم يدخل حتى الآن حيز التطبيق، والمفارقة أن أوروبا ككل تخصص 1.6 في المئة من ناتجها الاجمالي لأغراض الدفاع، مقارنة بنحو 5.8 في المئة للولايات المتحدة، والقارة الأوروبية هي المنطقة الوحيدة في العالم التي يتقلص فيها الانفاق العسكري بدليل أن انتشار القوات الأوروبية في الخارج لا يشكل سوى 4 في المئة من الانتشار العالمي في مقابل 14 في المئة للولايات المتحدة.
من الواضح أيضاً أن أوروبا ليست راغبة في تطوير قدرات عسكرية كبيرة لأن المشروع الأوروبي، في الأساس، قام على معارضة مبدأ القوة، لكن تكريس هذا المبدأ متعذر الى حد كبير، لأن المجموعة الأوروبية تواجه أخطاراً حقيقية وفرنسا وحدها عاجزة عن احتواء هذه الأخطار أو التصدي لها ، وكل شيء يدل على أن القوة العسكرية شرط أساسي للنفوذ الخارجي، وأن القوة الدبلوماسية الناعمة لا تكفي لرد التهديدات الأمنية.
من هنا ينظر الكثيرون الى قرار فرنسا التدخل في مالي نظرتهم الى «طائر أوروبي يغرّد خارج سربه».
ومن الواضح أن هذه المغامرة تأتي في لحظة غير مناسبة بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها فرنسا، وهي لم تكن متوقعة في أي حال عقب القرار الفرنسي استعجال الانسحاب من أفغانستان قبل الموعد المقرر لخروج قوات الأطلسي في العام 2014.
لكن هل إن هولاند وحيد بالفعل؟
الجواب عن هذا السؤال متعدد الجوانب ، وخيوطه متشابكة الى حد يصعب تعريبها بسهولة.
الجانب الأول هو أن فرنسا في افريقيا كانت، ولا تزال، قوة استعمارية ولو أنها فقدت معظم مواقع نفوذها منذ بدأت الهجمة الأميركية الصينية على القارة، والتدخل الأخير تدخل استعماري بامتياز. في مالي كما في النيجر تكاد فرنسا تحتكر الذهب والنحاس واليورانيوم والنفط ، وفقدان السيطرة على هذه الثروات يحرمها عناصر قوة لا تعوّض، علماً أن الساحل الافريقي ليس بعيدا عن دائرة الاستهدافات الأميركية- الغربية في السنوات الأخيرة.
الجانب الثاني هو أن فرنسا لا تقاتل منفردة. صحيح أنها دفعت الى أرض المعركة بقوات محدودة من وحداتها الخاصة، لكنها تنتطر المساندة الافريقية التي سوف تتولى القسط الأهم من القتال البري، والقوة الافريقية تأتي تنفيذاً لقرار دولي، وهي تحظى بدعم دولي.
الجانب الثالث يتصل بالموقف الأميركي وهو يختصر حالياً بعدم التدخل المباشر في االخارج. ليس سراً أن باراك اوباما يلملم جنوده في أعقاب حربي افغانستان والعراق، وهو غير مندفع للدخول في حرب جديدة بعد التجربة الأميركية في الصومال (1992- 1993)، والرغبة الأوروبية في المواجهة ليست أكبرمن الرغبة الأميركية. وحدها فرنسا تعتبر المساحة الواقعة الى الجنوب من الصحراء الكبرى في افريقيا والعالم العربي مدى طبيعياً لنفوذها السياسي والاستراتيجي، ومن دونه هي تفقد ركائز أساسية في تعزيز مكانتها كقوة عالمية.
الجانب الرابع يتصل بشعبية فرانسوا هولاند نفسه. انها اليوم في أدنى مستوياتها منذ انتخابه في أيار من العام الفائت. منذ بدأ التدخل في مالي يعود الفرنسيون الى الالتفاف حول رئيسهم بصفته القائد الأعلى للقوات الفرنسية المسلحة، لكن هذا الالتفاف مرشح للتراجع اذا ساءت الأمور، أو اذا سقطت باماكو في أيدي الاسلاميين. هولاند هنا يلعب ورقة رجل الدولة التاريخي، وهو يحاول إعادة تعويم نفسه، لكنه يدرك جيداً مخاطر اللعبة وسط الانقسامات السياسية الداخلية العميقة حول مجموعة ملفات اقتصادية واجتماعية ، ليس فقط بين اليمين واليسار، وانما داخل كل معسكر على حدة.
في ضوء هذه المعطيات يمكن القول ان هولاند قصد مالي، ليس لحماية نظام فاسد وعاجز، وانما لحماية ما يعتبره مصلحة قومية عليا، بمعزل عن مواثيق الدفاع الأوروبي المشترك التي لم تبرهن عن أي فعالية حتى الآن ، وبمعزل عن موقف الحليف الاستراتيجي الأهم أي الولايات المتحدة. ورغم أن أحداً في أميركا او أوروبا لا يشكك في حجم التهديد الذي تشكله «القاعدة» في بلاد المغرب الاسلامي على الأمن الاقليمي، فإنه من الواضح أن هذا التهديد يمس المصالح الفرنسية قبل أي مصالح أخرى اقليمية أو دولية.
هولاند الذي ذهب الى المعركة لا يشعر بأنه وحيد فعلاً. إنها لحظة تاريخية في حياة الرجل، وربما في دور فرنسا الافريقي.