المفارقة الأولى أميركية. مع بدء ولاية باراك أوباما الثانية يكثر الحديث عن «إعادة تنظيم البيت الأميركي»، و«إعادة تنظيم علاقات الولايات المتحدة بالعالم الخارجي». والمشكلة أن جملة قضايا ساخنة تلوح في الأفق وتضغط على صانعي القرار الأميركي، أولها الصراع الدائر في سوريا، واحتمال انتشار الحرب في الساحل الافريقي، وكيفية التعامل مع ما بات يسمى «التحدي الايراني».
في العام 2009، وفي خطاب التنصيب الأول، قال أوباما متوجهاً الى الايرانيين: سوف نمد يدنا إذا كنتم على استعداد لبسط يدكم أولاً. وفي خطاب التنصيب الثاني قال: سوف نظهر شجاعتنا في حل خلافاتنا مع الدول الأخرى سلمياً… وفي ما يتصل بسوريا قال بعد خطاب التنصيب: ندرس جدوى التدخل العسكري ونريد أن نتأكد من أنه لن يأتي بنتائج عكسية.
هل إنه انتقال من سياسة التدخل والوصاية الى استراتيجية الحوار والمشاركة الدولية؟ سؤال لم يجب عنه أحد بعد.
المفارقة الثانية تنموية. التكنولوجيات التي كانت حكراً على الدول الغنية تنتشر اليوم في العالم كله، لكن معدلات النمو تتراجع بصورة دراماتيكية منذ مطلع القرن الجديد. وفي الوقت الذي يتوقع صندوق النقد الدولي أن تنمو الاقتصادات المتقدمة بنسبة 1.5 في المئة، فإنه يتوقع أيضاً أن تصل النسبة في البلدان النامية الى 5.6 في المئة. انه التحدي الأهم الذي يواجه العالم الصناعي في العام 2013. هذا العالم يعيش أزمة مفتوحة منذ خمس سنوات وكأن التكنولوجيا الذكية هي نقيض التقدم. لماذا؟ ببساطة ان تكنولوجيا المعلومات، وأجهزة الكمبيوتر، وخرائط الأقمار الصناعية، والأنظمة المتخصصة، وزراعة المزيد من الغذاء بأقل قدر ممكن من الضرر البيئي، وتحسين الصحة للأغنياء والفقراء على حد سواء… عوامل لم تصنع التنمية المستدامة حتى الآن.
عصر التكنولوجيا المتقدمة لم يصنع الرخاء والازدهار، بقدر ما صنع الكوارث البيئية المتعاظمة.
المفارقة الثالثة سورية- ايرانية. بصرف النظر عمن سيربح المعركة الدائرة، كل شيء يدل على أن النتائج ستكون كارثية. خسارة سوريا في العامين الأخيرين 35 في المئة من اجمالي ناتجها المحلي (اليونان في ازمتها خسرت 1 في المئة فقط من هذا الناتج). والحديث عن كلفة اعادة الاعمار لا يزال سابقاً لأوانه، رغم أن التقديرات الأولى (اذا ما توقفت الحرب اليوم) في حدود مئتي مليار دولار، لكنها تقديرات متحركة تتجاوزها الوقائع يوماً بعد يوم.
الى جانب سوريا تبقى منطقة الساحل الافريقي، كما منطقة شرق آسيا، منطقتين ساخنتين، وكثيرون يفسرون الحضور الأميركي المتزايد في آسيا بأنه محاولة لاحتواء التمدد الصيني واعاقة نمو «العملاق الأصفر»، ولهذا كله تداعيات سلبية على الاقتصاد العالمي. أما الحرب الفرنسية في مالي فإنها حرب بالوكالة عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في آن.
تبقى ايران. أي اعتداء على الجمهورية الاسلامية يمكن أن يقود العالم كله الى حرب عالمية، ولا يمكن تصور أي هجوم اسرائيلي على المنشآت الايرانية من دون مساندة أميركية مباشرة. ونتنياهو العائد يؤكد كل يوم أن اسرائيل سوف تقوم بتوجيه الضربة الأولى لأن ايران تشكل خطراً على وجود اسرائيل… واذا ما حدث ذلك فان أحداً في المنطقة لن ينجو من الكارثة.
بكلام آخر يمكن القول إن أوباما ألزم نفسه مراراً وتكراراً بتحويل العالم الى أي عالم خال من الأسلحة النووية، وهو يعتقد (كما فعل وزيرا الخارجية السابقان هنري كيسنجر، وجورج شولتز، ووزير الدفاع السابق ويليام بيري، وعضو مجلس الشيوخ السابق سام نان) انه ما لم يجد العالم سبيلاً الى الحياة من دون اسلحة نووية، فإننا سوف نجد انفسنا في نظام دولي تمتلك فيه ثلاثون الى خمسين دولة اسلحة نووية، وهو ما من شأنه أن يؤدي الى رفع المخاطر المتمثلة في احتمالات اطلاق قنبلة نووية عن طريق الخطأ أو بشكل معتمد الى مستويات غير مقبولة. وقد تبدو محاولات اقناع القوى العظمى بإزالة ترساناتها النووية ضرباً من ضروب الخيال السياسي تماماً كمثل محاولات تمرير تشريعات خاصة بالسيطرة على الأسلحة النارية عبر الكونغرس الأميركي، في ما يتصل بهذه القضية أيضاً أوضح أوباما أنه على استعداد للمحاولة.
المفارقة الكبرى هنا: في حالة سوريا كما في حالة ايران تستحيل المواءمة بين الحرب والدبلوماسية، لأن الحرب حرب والدبلوماسية وحدها ليست حلاً… وكل محاولة لتأجيل الحل تزيد من احتمالات الكارثة.