منطاد مرسي

 بعد عامين على «ربيع» مصر ثمة رجل يقاتل وحده من أجل الامساك بالسلطة. إنه محمد مرسي.

والمفارقة الكبرى أن رفاق الدرب حتى الأمس القريب، الذين تلاقوا في الشارع لاسقاط حسني مبارك واحمد شفيق، تفرقوا. والدعوة الأخيرة الى الانتخابات محفوفة بكل أنواع المقاطعة: حالة طوارئ في مدن القناة ، عصيان مدني (يتفشى)، مؤسسات دستورية مربكة…هذا كله يعني أن «الاخوان» الذين يقودون التحول الديمقراطي بعد الثورة، ويتطلعون الى وقف النزف المالي والتدهور الاقتصادي والاجتماعي، لم يوفقوا حتى الآن الى استيعاب الحالة الصراعية التي تعيشها مصر، والتي ترجمت ولا تزال احتجاجات عنيفة في الشارع .

وكثيرون هم المراقبون الذين يتصورون أن استدعاء الجيش (أي العودة الى المرحلة الانتقالية) هو الحل اذا فشلت الحلول الأخرى، واستمرت الفوضى ووصلت البلاد الى حافة الافلاس. لكن الاخوان يتشبثون بالحكم «حتى قطع الرقبة» (والتعبير للرئيس مرسي) وليس ما يدل على أن هذا العناد مرشح للتغيير في المدى القريب.

في غضون ذلك تسجل خناقات في أوساط الاسلاميين أنفسهم (السلفيون وحزب النور)، وبداية تحول أميركي وغربي عن دعم الحكام الجدد، بعد مصرع السفير الأميركي في ليبيا  وتعاظم الارتباك ونقص الخبرة، فضلاً عن القمع، في مصر كما في تونس. وفي واشنطن كما في العواصم الأوروبية من بات يعتقد أن شرعية الحكام الجدد في دول «الربيع» منقوصة وأن شعبيتهم في تآكل مستمر، وأنهم عاجزون فعلاً عن الاداء الاقتصادي السليم.

أهمية هذا «التحول» في أنه يأتي متزامناً مع عودة الاهتمام الأميركي بشؤون المنطقة، بعد تسلم جون كيري مهماته، وفي رأسها الملف النووي الايراني، العلاقات الأميركية – العربية، والصراع العربي مع اسرائيل. وليس ما يدل حتى الساعة على أن الاداء الاخواني يلقى ارتياحاً في العواصم الغربية، ولو في الحد الأدنى ،ورحلة كيري الأخيرة تحمل الدليل القاطع على هذه الحقيقة .

والكلام عن مقاطعة الانتخابات والاضطرابات السياسية والاقتصادية وغياب الحوار الوطني (الذي يصر عليه مرسي)، من شأنه أن يقوّض على مراحل متقاربة شرعية الحكم الجديد. وبكل بساطة يمكن الجزم أن عهد مرسي بات تحت الحصار، بعد سلسلة تراجعات بدأت منذ تسلم مهامه ولم تنته حتى الساعة.

كيف آلت الحال الى ما آلت اليه؟

ليس سراً أن الرئيس المصري وصل الى القصر بعد معركة صعبة، مدعوماً بأصوات ثوريين لم يكن هواهم اخوانياً بقدر ما سعوا الى قطع الطريق على عودة النظام السابق . هؤلاء الثوريون (وليس الاخوان أو السلفيون) هم الذين حسموا النتيجة. وليس سراً ان مرسي استقطب اعجاب الكثيرين من الليبراليين واليساريين فور دخوله قصر الاتحادية، خصوصاً عندما تخلص من المشير محمد طنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان، بصورة أوحت أن عصراً جديداً قد بدأ لا يحتكر فيه الجيش السلطة.

الخطابات الخمسون الأولى للرئيس الجديد كانت واعدة، وأبرزها خطاب ميدان التحرير الذي استخدم فيه لغة ثورية واعداً بالقصاص لدماء الشهداء.

بعد خمسة أشهر كان مرسي، ومع كل خطاب جديد، يخسر المزيد من الثوريين والليبراليين حتى بلغ به الأمر أن تحول الى واعظ أو مرشد متجاهلاً صفته الأساسية أي موقع الرئاسة. وعندما تصاعدت الاحتجاجات على قراراته وتراجعاته عن هذه القرارات، انخفضت شعبيته الى ادنى مستوياتها في زمن قياسي.

هل فشل مرسي؟

من السابق لأوانه الاجابة عن السؤال، إلا أن شيئاً لا يدل حتى الآن على أنه نجح في الداخل، والغليان الذي تعيشه مصر في الأسابيع الأخيرة (قبل وبعد الدعوة الى الانتخابات) يحمل الدليل القاطع على هذا اللانجاح. والمواقف الأميركية والأوروبية، فضلاً عن موقف صندوق النقد الدولي، كلها تحمل مؤشرات متلاحقة على أن مصر اليوم مهددة من الداخل والخارج معاً بفترة انكماش اقتصادي وبلبلة أمنية وسياسية.

يحدث هذا كله في جو متبادل من الاتهامات والتشكيك والتخوين، وسط فوضى اعلامية واسعة سجل فيها الرئيس المصري رقماً قياسياً في ملاحقة الاعلاميين، اذ شهدت الأشهر الستة الأخيرة ملاحقات لا تتوقف للصحافيين بلغت أربعة أضعاف عدد الملاحقات في عهد حسني مبارك طوال الثلاثين عاماً من حكمه، وأربعة وعشرين ضعفاً القضايا المماثلة في عهد أنور السادات.

إنها المؤسسات المصرية الجديدة التي لم تولد بعد، والولادة متعسرة تحتاج الى أكثر من عملية قيصرية واحدة.

إنه «منطاد الثورة» يهوي بعد عامين على اقلاعه في المدى الديمقراطي الرحب.

إنها مصر الاخوانية التي لا تشكل عبئاً على الرئيس وحده، وانما على المصريين جميعاً مقيمين ومهاجرين.

انها أزمة «الأخونة» السياسية والاقتصادية وأزمة العلاقة بين الجنرالات والحكام الجدد، ولو سلم الاخوان بشروط القوات المسلحة من أجل ضمان عبور المرحلة الانتقالية.

انه انعدام الثقة بين المؤسسة الدينية الحاكمة والثوريين الليبراليين واليساريين والمستقلين.

إنه مرسي يعلو ويهبط في منطاد بلا قرار.


Posted

in

by