ديموقراطية بطعم الجوع

حدث ذلك في شباط ( فبراير) 2011 عندما وقف علاء ، وهو في العقد الرابع من العمر ، في أحد أركان  ميدان التحرير في القاهرة ،يحمل لافتة  كتبها بخط يده تختصر مطالب ثورة ال18 يوما في ثلاث كلمات : الخبز ،الحرية ،الكرامة.

علاء أب لثلاثة أولاد يعيشون في أحد أحياء العاصمة المتداعية،  وقد تصور أن انضمامه الى الثورة سوف يضع حدا للدكتاتورية والفساد الحكومي ، ويخرجه من مسار الفقر الى مسار آخر يمكنه من العيش بحرية واطمئنان.

ما حصل بعد عامين كان العكس تماما ، لأن الأمور صارت أسوأ مما كانت عليه في عهد حسني  مبارك .                                                                                           .

الأقتصاد يتهالك ، والسياح والمستثمرون يديرون الأذن الصماء  ، وبحجة “حماية الثورة” تتوالد كل يوم    أزمات أمنية وسياسية ومعيشية جديدة.

وليس سرا أن فرص العمل تقلصت أكثر من أي وقت ، وأن الأحتياطات الأجنبية بدأت تضمر، والتنافس على الوظائف يزداد شراسة ، وكلفة المعيشة في تصاعد.

وعلاء الذي رفع اللافتة في شباط 2011 ، عاد في شباط 2013 الى المكان اياه وهو يحمل لافتة أخرى كتب عليها بخط يده : الخبز …الخبز … الخبز. لقد استعاض عن الحرية والكرامة بالعيش ، ولماذا يجوع مع أولاده من أجل ديموقراطية لا تأتي ؟

حال علاء هنا حال ربع المصريين على الأقل ، الذين يعيشون تحت خط الفقر ، وهو حال المصريين  الذين يقفون في الطوابير الطويلة لساعات طويلة، من أجل شراء الخبز المدعوم المصنوع من أسوأ انواع الدقيق ، المخلوط بالقشر .

وفي الدراسات الأخيرة أن معدلات التضخم في مصر تقفز من شهر الى آخر . احدى هذه الدراسات  (مركز الغذاء المصري ) تؤكد أن 68 في المئة من الأسر المصرية لم تعد تتمكن من تلبية مستلزماتها الأساسية ، رغم أنها تخصص 60 في المئة من مداخيلها للحاجات الغذائية الضرورية .

ومعروف أن طوابير الجائعين من المألوف اليومي في عهد مبارك ، لكن ليس الى الحد الذي بلغته اليوم .

والجوع ليس الأنجاز اليتيم للثورة المصرية ، لأن الأنجاز الآخر الذي لا يقل عنه أهمية هو العنف السياسي المعطوف على الأقصاء . ومنذ الذكرى الثانية للثورة صار هذا العنف حكاية كل صباح وكأنه كتب على المصريين أن يغمسوا رغيفهم اليومي  بالدم لأنهم جرؤوا على الحلم بعد عقود طويلة من الدكتاتورية والأذعان .

والموجع فعلا أن الحكام الجدد يقمعون مواطنيهم باسم الأسلام ، وبعنصرية لا تخفى ، وكأن الأسلام  – أو هكذا يريدونه – ليس دين اعتدال وتسامح ، أو كأنهم  يصرون على التنكر لتعدد الثقافات والأفكار .

ما يجري في مصر ( كما في تونس وليبيا ) محاولة استعداء مكشوفة لكل القيم الديموقراطية ، وكل المسلمين المعتدلين ، فضلا عن غير المسلمين ، وكل الذين رفعوا قبل عامين لافتات وأطلقوا صرخات تطالب بالحرية وتداول السلطة ، عبر مؤسسات ديموقراطية شفافة .

ومن الواضح أن الأستراتيجية التي اعتمدت في العبور الى مؤسسات جديدة ، لم تثمر حتى الساعة الا مزيدا من الاحباط والقهر على المستويين الشعبي والوطني .

والسؤال الذي يعيد طرح نفسه بألحاح في الربيع العربي المربك هو : هل يمكن بناء مؤسسات ديموقراطية سليمة من دون خبز ومن دون تعليم ومن د ون استقرار أمني؟

استطرادا : لماذا تنجح بعض الأمم في اعادة هيكلة مؤسساتها واقتصادها وبناها الأساسية في حين تفشل أمم أخرى ؟

جيمس روبنسون أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد يقول : ان الجهل في السياسات والفقر في الموارد ، كلاهما عامل أساسي في فشل الأوطان الكبيرة كما الصغيرة ،الى جانب عوامل أخرى خارجية ومناخية وثقافية . وهذه النظرية تنطبق على جميع المجتمعات البشرية منذ مطلع التاريخ في كل مكان .

روبنسون يضيف أن فكرة المؤسسية في ادارة البلاد هي التي تصنع المستقبل وتحقق النجاح لكل أطياف وطبقات المجتمع . والفشل هو مصير كل مجموعة حاكمة لا تضم الا نفسها والدوائر القريبة منها وأصحاب المصالح المرتبطة بها . ذلك أن المؤسسات السياسية والأقتصادية ، حين تكون جامعة وقائمة على التعددية السياسية ، تفتح الباب أمام كل المواطنين للمشاركة في ورشة التقدم والتطوير ، وغياب

هذه المشاركة مرادف للصراع على السلطة وربما الأقتتال من تقاسم ثروات البلاد .

نستدل على هذه الحقيقة من خلال مقارنة سريعة بين التراجع الأقتصادي والسياسي في دول اوروبا الشرقية قبل التغيير ،والنهوض الذي حققته اوروبا الغربية منذ قيام الثورة الصناعية وصولا الى الثورة المعلوماتية .

المؤسسات هي البداية واذا ما حدث العكس وتم احتكار السلطة من جانب نخبة سياسية أو عسكرية أو دينية ، ومن قبل الموالين لها ، فأن الفشل قدر محتوم ولو بعد حين .

والأحتكار الذي نشهده في بعض دول الربيع العربي انحياز مفضوح الى الفقر والتخلف وتعميق للمشاكل الأجتماعية والأمنية . والخروج من هذه الورطة ، في غياب الوعي السياسي ، قد يحتاج الى عقود .

فؤاد حبيقة


Posted

in

by