الحقيقة الأكثر وضوحاً في الصيف العربي، وقد بدأ، هي حالة اللايقين التي تعيشها دول عربية عدة بسبب الاصطفافات الجديدة، القبلية والعرقية والمذهبية، داخل الدولة المركزية الواحدة.
بعد زمن طال كانت فيه معظم الدول العربية موحدة بقوة الحاكم المستبد، ثمة شعوب وقبائل وجماعات تتطلع اليوم الى حق تقرير المصير، على حساب الدولة المركزية، وقوى عرقية ودينية تطفو على سطح المشهد السياسي، هنا وهناك وهنالك، في المشرق كما في المغرب.
إنه الموروث الاستعماري الأوروبي يعيش أزمة داخلية مفتوحة على امتداد المنطقة، وكأن الحدود التي رسمها الاستعمار قبل رحيله لم تعد تصلح للمرحلة المقبلة. وكثيرون يقولون إن ما حدث في يوغوسلافيا يمكن أن يتكرر في الشرق الأوسط، تحت عنوان “نرجسية الاختلافات الطفيفة” (التعبير لسيغموند فرويد) التي كانت السبب في تقسيم جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الى سبع دول صغيرة (بما في ذلك كوسوفو) في أعقاب اقتتال كان الأعنف في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
واللايقين في الصيف الذي بدأ يتجاوز ما بات يسمى “تصحيح الخريطة العرقية السياسية في المنطقة”، الى “تصحيح المسار الانتقالي” الذي دخلته دول “الربيع العربي”، ومعالجة المشاكل المتلاحقة داخل دول الأتحاد الأوروبي ،علماً أن العام الفائت كان حافلاً بالأزمات الاقتصادية والصراعات السياسية والعسكرية، والاضطرابات الاجتماعية والصدامات الثقافية.
المشهد السياسي يتغير على امتداد الأفق العربي والمتوسطي والأوروبي والأميركي، وكأنه مطلوب من دول العالم ـ أو معظمها على الأقل ـ أن تعيد تعريف نفسها وتحديد مهماتها، إذا هي كانت راغبة فعلاً في الاحتفاظ باستقرارها وثقلها الجيوسياسي.
إعادة التعريف هذه تشكل أولوية قصوى في الشرق الأوسط وشمال افريقيا (MENA)، رغم أنه من السابق لأوانه التكهن بنتائج ما يسمي “الصحوة العربية” الأخيرة. ومن الواضح أن جهوداً غربية وأخرى اقليمية تبذل من أجل تحويل الصراعات الداخلية العربية الى صراعات عرقية وطائفية يمكن أن تعيث فساداً في مختلف أنحاء المنطقة.
بكلام آخر، الحيرة السياسية الدامية التي تشكل العنوان الأهم في الشرق الأوسط، والحيرة (الاقتصادية هذه المرة) التي تلف أوروبا، مترابطتان الى حد بعيد. وطبيعة الأزمة في دول الاتحاد الأوروبي سياسية رغم ظواهرها الاقتصادية المالية. وقد كشفت معضلة اليورو عن حقيقة كبيرة هي أن أوروبا الاتحادية تحتاج الى إطار سياسي بقدر ما تحتاج الى المزيد من الدولة، تماماً كما كشفت أزمات المرحلة الانتقالية في معظم دول الشرق الأوسط أن عرب ما بعد “الربيع” يحتاجون الى إطار بديل وواضح للدولة الجديدة ومركزية أقوى في صناعة القرار السياسي والاستراتيجي.
واللايقين أميركي أيضاً ولو أن التأثير الاقتصادي على السياسة في الولايات المتحدة أقل ديناميكية مما هو عليه في أوروبا والشرق الأوسط. لكن الاستقطاب المستمر داخل الكونغرس يسهم في إطالة حالة عدم الوضوح السياسي وإعاقة النمو الاقتصادي في آن.
نعود الى المنطقة العربية لنعاين مجموعة حقائق كبيرة تندرج تحت عنوان اللايقين في صيف 2013:
– إن الانتقال الى المستقبل عبر التحول من “الدولة الريعية” الى “الدولة الانتاجية” لم يتحقق بعد، وهو انتقال يحتاج الى عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع يجسد الصيغة الجديدة الناشئة عن التحولات السياسية العنيفة.
– هذه الصيغة المرجوة تصطدم بالكثير من موروثات الفساد التي تسود أوساط الطبقة الجديدة الحاكمة والطبقة البيروقراطية التي تصوغ القوانين الجديدة ، والصفقات الاقتصادية التي تنقل الهيمنة المالية على القرار السياسي من فريق الى آخر.
– إن القوى الجديدة التي تمسك بالقرار تحتاج الى قاعدة اجتماعية واسعة لم تتكون بعد، وإلى درجة عالية من النزاهة والالتزام لم تتوافر حتى الآن، ما يفسر أن المقاربة التنموية الجديدة لا تزال تتعثر.
انطلاقاً من هذه المعطيات يمكن القول إن “الربيع العربي” مخيب للآمال، لأنه أعاد انتاج السلطوية في أكثر من بلد عربي، في مرحلة ما بعد التغيير. ورغم انقضاء أكثر من عامين على أداء “الثوريين” الجدد، فإن تهديد المتطرفين من الأسلاميين المتزايد للحريات المدنية، والعنف الذي تمارسه لجان الأمن الأهلية، والشلل الذي تعانيه الأجهزة الأمنية، معطوفة على الأرباكات الاقتصادية والظروف المعيشية المتردية، هي المظاهر الأكثر دلالة على مأزق حقبة ما بعد الاستبداد.
ما حصل فعلاً حتى الآن هو أن السلطوية لا تزال حقيقة قائمة، والسيطرة على مرافق الدولة هي الهاجس الأول للثوريين الجدد، والإرث الاستبدادي لا يزال عنوان المرحلة الانتقالية، علماً أن العنف هو العنوان الدائم العلاقة بين الدولة والمجتمع، والجهات السياسية الفاعلة التي وضعت يدها على السلطة لا تزال تعمل بمنطق الحقبة السلطوية السابقة.
إنه صيف اللايقين في دول “الربيع” كما في الحوضين المتوسطي والأوروبي، حتى اشعار آخر.