التقيته قبل أيام. كان عائداً من لقاء جمعه مع الأخضر الابراهيمي ومسؤول أميركي كبير من أقرب المستشارين الى باراك أوباما.
لساعة كاملة أصغيت إليه ينقل ما سمعه من محدثيه الاثنين اللذين يفترض أنهما مطلعان بما فيه الكفاية على ما يجري في سوريا، والمرحلة التي تمر بها حرب النظام والمعارضة، وطبيعة الاستعدادات لـ”جنيف 2″، والدوائر الأمنية التي تحكم مندرجات الأزمة على المستويين الاقليمي والدولي.
وسأحاول أن أضعكم في الصورة:
– الحقيقة الأولى تختصر في أن نقطة التفاهم الأساسية بين موسكو وواشنطن هي التسليم بضرورة استمرار النزاع المسلح داخل سوريا لمدة تتراوح ما بين 6 و7 سنوات. هذه المدة في الحسابات العسكرية، كافية لاستنزاف “القاعدة” (التيار السني المتطرف) و”حزب الله” (ذراع إيران القوية)، لمصلحة الأمن القومي الروسي والأمن القومي الأميركي في آن، فضلاً عن أمن اسرائيل.
– الحقيقة الثانية تختصر في أن دول الجوار لن تكون في منأى عن تداعيات الصراع إذا طال. أول المتضررين – كما يقول العارفون – سيكون الأردن الذي سوف يشهد عواصف داخلية مربكة، تقود مع الوقت الى نفض الغبار عن مشروع “الحل الأردني”، أي إقامة دولة فلسطينية في الأردن، ترتبط باتفاقات عدم عداء مع إسرائيل، وتشكل حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية. تشديد جيم كيري في رحلاته المكوكية الأخيرة، على “صعوبة المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين” خطوة أولى تمهيدية لـ”الحل البديل”، وانهيار مقومات الرفض والممانعة بعد انتهاء حرب سوريا، عامل دفع اضافي في اتجاه هذا “الحل”.
– الحقيقة الثالثة هي أن لبنان معرّض هو الآخر لخضات كبيرة، اقتصادية أولاً وأمنية ثانية، من دون أن تقود بالضرورة الى حرب أهلية أو مذهبية داخلية. عامل الاستقرار الجديد في لبنان هو ثروته النفطية والغازية، وكل توظيف عربي أو أميركي أو آسيوي في هذه الثروة يمكن أن يضمن ضبط الوضع اللبناني على إيقاع المصالح الدولية المرشحة للتنامي في البلد النفطي الجديد. ملامح هذا الاستقرار تبدأ في الظهور بعد ثلاث سنوات، ومرحلة ما بعد 2017 في لبنان لا تشبه ما قبلها.
– الحقيقة الرابعة أن استفحال الحرب السورية ومراوحتها في اللاحل، لسنوات قد تطول، سوف يقود بالضرورة (كما تؤكد القيادات السياسية على اختلافها) الى تصدعات كبيرة على المستوى الاقليمي.
التصدع الأول قد يكون تركياً بعدما ثبت بالتجربة أن النموذج التركي (أي حكم حزب العدالة والتنمية) لم يعد يستجيب لحاجات المرحلة المقبلة. في هذا السياق هناك من يتصور أن تراخي القبضة السورية، وتراخي القبضة التركية بفعل الاضطرابات الداخلية، وتراخي قبضة إيران بفعل الأزمة الاقتصادي – الاجتماعية العميقة… كلها قد تقود الى دفع مشروع الدولة الكردية المستقلة الى نهايات أكثر وضوحاً، ولو أن شيئاً لا يؤكد – حتى الآن – أن المشروع الكردي قابل للتحقيق.
– الحقيقة الخامسة هي أن مرحلة ما بعد “الربيع العربي” في مصر وتونس وليبيا بصورة خاصة، شكلت مفاجأة صادمة للخطط الأميركية التي دعت عرب “الربيع” الى الاقتداء بالنموذج التركي. فقد تبين مع الوقت أن العرب عرب وأن الأتراك أتراك، وأن مرحلة ما بعد الأتاتوركية لا تشبه من قريب أو بعيد مرحلة ما بعد الديكتاتوريات العربية، والجمع بين الاسلام والديمقراطية في عواصم “الربيع العربي” وهم كبير.
من هذه الزاوية بالتحديد يمكن أن نفهم التغيرات التي شهدتها قطر، والتي تشكل انقلاباً وقائياً داخل الحكم، يمكن أن يمهد لاعادة نظر قطرية في التعامل مع اسلاميي “الربيع العربي”، بناء لنصائح (البعض يقول ضغوط) أميركية بالغة الوضوح.
بكلام آخر، ان الرهان الأميركي على “اسلاميي الربيع” بدأ يتراجع، والربط بين تركيا الأردوغانية والمرحلة الانتقالية العربية لم يعد قائماً. وفي انتظار أن تهتدي تركيا الى أفق جديد، يمكن القول ان الديمقراطيات العربية معطلة حتى اشعار آخر، وأن مخاض ما بعد الديكتاتوريات مرشح لأن يتمدد زمنياً حتى نهاية العقد الحالي.
أين كنا؟
كنت أقول إن صديقاً سورياً يجيد الاصغاء حدثني عن أفق المرحلة المقبلة، وإذ أنقل باختصار بعض ما نقله لي، يهمني أن أؤكد أنني لا أتبنى أياً من “تنبؤاته” التي قد تكون واقعية جداً، وقد تكون مجرّد اجتهادات.
المهم أنني أخبرتكم بما قال، وهو ليس بالضرورة جديداً، لكنه أقرب ما يكون الى نكهة “الطبخة” الاقليمية والدولية الحالية.
ولنا الى صديقي عودة.