أفضل ما قرأت عن لبنان في الأسابيع الأخيرة ، دراسة مفادها أن لبنان ليس فقط مختبرا للأيديولوجيات الأقليمية والصراعات الدولية ، وانما أيضا – بل أولا – بلد أزماتي ، بمعنى أنه يجيد توليد أزماته بنفسه ، وقواه الّذاتية ، دونما حاجة الى تدخل القوى الخارجية .
يؤكد هذه الحقيقة مايشهده الوطن الصغير في الفترة الأخيرة من ضياع وارتباك واهتزازات من النوع المضحك المبكي.
وكثيرون ، وأنا منهم ، يقولون انه اذا كان “جنيف 1 ” سوريا ، و”جنيف 2 “سوريا ، فان” جنيف 3 ” سوف يكون لبنانيا بامتياز ، أيا يكن مكان انعقاده . وكل شيء يدل على أن النظام الحالي ، أي نظام الطائف الذي انتشل الطوائف اللبنانية من حرب أهلية تواصلت على مدى خمس عشرة سنة ، لم يعد يملك مقومات الصمود .
ربع قرن مضى على الميثاق الثاني الذي عقب الحرب الأهلية الأخيرة ، لكن التغيرات التي تشهدها المنطقة ، والتفاعلات المتسارعة على وقع الزلزال السوري ، تتكشف عن حقيقة مفادها أن لبنان بات يحتاج الى ميثاق ثالث يرتكز على مؤسسات دستورية جديدة .
وليس سرا أن المنطقة تشهد صراعا ضاريا ، من نوع جديد- قديم ، يهدد هياكلها السياسية والأقتصادية ، وهو صراع معقد على نحو متزايد ، تغذيه توترات وأحقاد مذهبية وطائفية وعرقية عميقة الجذور ، حتى ليكاد يستعصي على الحل .
وما يجري في سوريا نموذج ملتهب عن طبيعة هذا الصراع .من جهة تساند الولايات المتحدة وتركيا والأردن والسعودية وقطر المعارضة المسلحة ، التي تضم خليطا غير متجانس من الفصائل ، تتوزع بين الوطنية السورية والقومية العربية والجهادية العالمية … ومن جهة ثانية تدعم روسيا وايران ووكلاؤهما في المنطقة النظام الذي لم يسقط بعد .
والنزاع في بعض جوانبه يبدو وكأنه من موروثات الحرب الباردة ، منذ تبنى الرئيس الراحل حافظ الأسد موقفا مناهضا للغرب أو غير متوافق معه على الأقل ، طوال ثلاثة عقود ، حتى جاء الرئيس بشار الأسد وعزز تحالفه مع روسيا الأتحادية على كل المستويات .
اليوم تعتبر سوريا الأسدية موطئ القدم الأخيرالمتبقي لروسيا في المنطقة ، في حين أن حلفاء المعارضة المناهضين للنظام ، هم حلفاء الولايات المتحدة ، بشكل أو بآخر .
أما اصطفاف ايران الى جانب الأسد فيندرج في سياق مختلف . انه التنازع السني الشيعي التاريخي للهيمنة على المنطقة . ودوافع هذا التنازع معروفة ، وقد شهد العراق بعضا من فصوله بين عامي 2006 و2008 ، وهي فصول لم تنته بعد .
بعض المحللين الأستراتيجيين يشبهون ما جرى ويجري بالحرب شبه الدائمة في بلاد الفرس خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ، والتي كان النصر فيها للعثمانيين الذين نجحوا في حينه في بسط سيطرتهم على العراق بأشكال مختلفة ، وقد استتبع ذلك انحدار الأمبراطوريتين العثمانية والأيرانية معا ، وخلف انقساما طائفيا بغيضا ….من دون أن تنجح الناصرية والحركات التحررية فيما بعد في النهوض بالقومية العربية .
وليس سرا أن قواعد اللعبة في سوريا مختلفة عما شهدته بلدان ما سمي بالربيع العربي ، الأمر الذي يفسر لماذا تتمزق بعنف وضراوة ، من دون أن تتوصل المساعي الدولية في ايجاد حل مقبول .
آخر الآمال معقودة على ” جنيف 2 ” لكن انعقاده يبدو صعبا واحتمالات الخروج من الورطة أصعب ، وكأن خريطة المنطقة بكاملها ، التي رسمت على أسس جيوسياسية لا جيو اتنية أو جيو طائفية في مطلع القرن الفائت ، لم تعد قادرة على الصمود في وجه الأعصار .
نعود الى لبنان لنؤكد أن الأنتقال الى مرحلة ما بعد الصراع في المنطقة ، يعني لبنان بصورة مباشرة ، . ذلك أن المعادلة التي أرساها اتفاق الطائف قبل ثلاث وعشرين سنة ، تتآكل ان لم يكن قد تآكلت بصورة دراماتيكية ،واعادة لبنان الى نفسه تقتضي وضع اعادة صياغة الدستور على أسس أكثر واقعية وعدلا ، لأن الطائف الذي صمد بارادة سورية ، وتوافق سوري – سعودي لاحقا ، فقد مقوماته وصار أشبه بدستور أعرج في غياب سوريا الأسدية عن مواقعها اللبنانية ، في الوقت الذي تتمدد ايران على أكثر من مستوى .
لبنان اليوم معطل أو مشلول : لا انتخابات ولا مشروع انتخابات ، ولا حكومة ، ولا دورة اقتصادية طبيعية ، والحكومة اذا تشكلت أداة عبور الى المرحلة الأنتقالية المرتقبة بعدما تبدلت قواعد اللعبة في المنطقة .
والدليل أن الطوائف اللبنانية غارقة في الجدل من دون أن تتوصل الى تفاهم على شكل ومضمون المؤسسات الدستورية البديلة ، اما استمرار الهدوء النسبي فأقرب ما يكون الى المعجزة ( التعبيرهنا فرنسي) .
وسواء ولدت الحكومة الجديدة أم لا ، أم دخل لبنان فعلا مرحلة الفراغ الكامل ، فان الحقيقة التي تفرض نفسها هي أن دستور الطائف قد مات ولم يعد يلبي حاجات المرحلة الجديدة .
ولنا الى عناوين الدستور الجديد عودة .