أحداث المنطقة في الأعوام الثلاثة الأخيرة أكدت، بما لا يقبل الجدل ، أن ديموقراطية الكاكي، كما ديموقراطية الأخوان المسلمين ، كلتاهما ديموقراطية وهمية . والدليل الأكثر بلاغة على هذه الحقيقة محمد مرسي والجنرال عبد الفتاح السيسي ، لأن كلا منهما يعطي نفسه تفويضا رسميا للتلاعب بالديموقراطية والقواعد الدستورية ، وتوظيف نتائج الأنتخابات في ممارسة الأستبداد .
لا شيء في ممارسات الرئيس المخلوع والجنرال ديموقراطي ، أو ليبرالي ، وأخطاء مرسي القاتلة لا تعادلها الا أخطاء السيسي الذي يعيد اليوم تشكيل وحدات الشرطة السرية من أجل ” انقاذ “الثورة من دون أن يستأذن أحدا من الثوار .
والصورة كاريكاتورية الى حد بعيد ، وكأن المطلوب التصفيق للمؤسسة العسكرية والقاء القبض على ملايين المصريين ، من أجال أن يستقر السلم الأهلي على أسس عادلة وتستوي العملية الديموقراطية كما يراها الجيش .
والمفارقة أن الولايات المتحدة اقترفت ، من حيث تدري أو لا تدري ، اثمين في آن واحد : الأول عندما راهنت على الأسلاميين على امتداد المساحة بين نواكشوط وطهران ، والثاني عندما أعلنت أن المؤسسة العسكرية في مصر تدخلت من” أجل انقاذ الديموقراطية ” .
نعود الى مرسي كي نذكر بأخطائه القاتلة :
ـ في أقل من عام أعطى الرجل الدليل تلو الدليل على عجزه الفاضح عن بناء مرتكزات الدولة الجديدة ، ووضع خطة للنهوض الأقتصادي والأجتماعي ، وعندما عجز عن احتواء القوى المدنية والليبرالية ، ذهب الى الخيار الأصعب : أخونة الدولة ومؤسساتها .
ـ باسم ال13 مليون مصري ـ ومعظمهم من الأميين ـ الذين صوتوا له في الدورة الثانية ، تجاهل مرسي ال 10 ملايين مسيحي ، كما تجاهل نفوذ المؤسسة العسكرية ، وتطلعات القوى الليبرالية الحقيقية ، وراح يوزع الأسلاميين المتشددين على المناصب القيادية ، وكأن مصر تحولت بين ليلة وضحاها الى مزرعة اسلامية .
ـ بعد مسيرة القمع والفساد والفقر وهيمنة الحزب الواحد لأكثر من ثلاثة عقود ، قرر مرسي ـ بل وعد ـ بحل مشكلة البطالة في أقل من مئة يوم ، وبانهاء معاناة ملايين الفقراء والمحرومين ، وضحايا المحسوبية والتسلط . وما حصل فعلا يندرج في خانة اللامعقول ، وخلاصته أن الأخوان الذين ركبوا قطار الثورة بعد اقلاعه ، تحولوا من مشروع حل الى مشروع حرب أهلية ، بعدما قرروا أن يمارسوا منطق الألغائية حتى مع أقرب حلفائهم ، فخسروا حزب النور والدعوة السلفية من دون أن يربحوا الشباب والليبراليين … وحلفاء الأمس القريب من شباب الثورة . .
ـ والمفارقة أن الأخوان الذين حاولوا احتواء الجيش ، بعدما قبضوا على السلطة ، هم أنفسهم الذين لوحوا بالمواجهة مع الجيش ، عبر ذراعهم العسكرية في سيناء … وقفزوا فجأة من صناديق الأقتراع الى صناديق الذخيرة ، ومن الألتزام بالأمن الأجتماعي الى التهويل بالأقتتال الداخلي .
ـ خطأ آخر قاتل أيضا ارتكبه محمد مرسي عندما برهن بنفسه لأميركا الحليفة وصانعي القرار الدولي أنه لم يضع فقط فرص الحل الأقتصادي ، وانما أضاع أيضا ، كل الفرص المتاحة لبلورة اجماع وطني ، وفضل عليها تنفيذ تعليمات المرشد التي تقول بالهيمنة على السلطة . وما حصل هو أن شعار ” الأسلام هو الحل ” لم يطعم أي جائع في مصر الأخوانية كسرة خبز يابسة ، ولم يستعد أي شبر من فلسطين … ثم أن الصفقة التي عقدها الأخوان مع الجيش وكرسوها في متن الدستور ، لم تحصن المؤسسة الأخوانية من سلطة المدنيين ولا سلطة العسكر .
ـ في السياق اياه ، أدت استهانة الأخوان بالقوى الليبرالية واليسارية الى انشطار ثورة 25 يناير الى ثورتين اسلامية وعلمانية ، واستطرادا الى عودة الجيش الى سابق عهده ، في مواجهة الدكتاتورية الدينية ، وقد تسارعت الأمور بصورة دراماتيكية ، واستطاع الجيش توظيف انتفاضة القوى الليبرالية اليائسة في الأنقضاض على السلطة .
باختصار ، انها الأستخدامات السلبية للدين الأسلامي في مواجهة الأستخدامات السلبية للمؤسسة العسكرية ، تحت شعار الدفاع عن الأمن القومي المصري .
واليوم تعيش مصر صراعا بين سلبيتين حادتين في الشارع كما في المحافل الأقليمية والدولية .
أما الثورة فحديث آخر لم يأت دوره بعد .