جالسته مرات في بغداد وفي باريس التي أمضيت فيها فترة الثمانينيات وبعض التسعينيات . بالنسبة الي كان طارق عزيز مسيحيا عراقيا رائدا فهم العالم وأعطى البعث العراقي نكهة خاصة كان في أمس الحاجة اليها.
وعندما أغمض عينيه، للمرة الأخيرة ، كان ، بوعي كامل ، يمارس الحق “الديموقراطي” الوحيد الذي ينعم به العراقيون جميعا ، بعد اثنتي عشرة سنة على “تحرير ” العراق : الحق في الموت .
قبله كان هناك مسيحي آخر هو ميشال عفلق ، حاول ، على طريقته ، رسم الطريق الى”النهوض بالأمة” ، واستعمل تعبيرا آخر هو”بعث العروبة “. الرجل كتب في العام 1935 : إننا ندعو الى عهد جديد … لا نطلب الإستقلال كي ننعزل عن بقية الشعوب ، ونقيم سدا بيننا وبين الحضارة الإنسانية ، ولا نصبو الى الحرية لنعيش في الفوضى ، أو نعود الى القرون الوسطى . إننا نطلب الإستقلال والحرية لأنهما حق قبل كل شيء ، ولأنهما وسيلة لإطلاق مواهبنا العالية وقوانا المبدعة ، كي نحقق على هذه البقعة من الأرض التي هي بلادنا ، غايتنا وغاية كل إنسان : الإنسانية الكاملة .
وقبل عفلق وعزيز ، وفي العام 1925 تحديدا ،حاول أنطون سعادة قبل عودته من المهجر ، وضع النهج الفكري للحزب السوري القومي الإجتماعي ، الذي أسسه في العام 1932. الحزب الذي أطلقه تحول في حرب فلسطين الى مواجهة قومية شاملة ، ما أدى الى إعدامه في العام 1949 بتواطؤ سوري – لبناني .
أذكر من أقواله : إن لم تكونوا أحرارا من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم .وأذكر : إننا نحب الحياة لأننا نحب الحرية ، ونحب الموت إذا كان طريقا لى الحياة . وقوله : لا نريد الإعتداء على أحد ، لكننا نأبى أن نكون طعاما لأمم أخرى …
أعود الى طارق عزيز . في كل مرة كنت ألتقيه ، والحرب اللبنانية تتواصل فصولا بشعة ، كان يسألني عن مسيحيي لبنان . وبين سؤال وسؤال كان ينعش ذاكرتي بسرد أسماء تعني لي وله الكثير . ولطالما حدثني عن تاريخية وإبداع ودور المسيحيين اللبنانيين في نهضة العرب ، والدور الآخر الضامر إلى حد الإنسحاق الذي يروج له بعض المهزومين والذي يدعو الى “تحالف الأقليات” .
أذكر أنه كان يردد على مسمعي أن المسيحيين هم رواد نهضة في دنيا العرب ، ويعطي ، على سبيل المثال لا الحصر ، بعض الأدلة : إنهم أول من أدخل المطبعة الى العالم العربي ( دير مار قزحيا في لبنان ومطبعة حلب في العام 1706) . وأول من ساعد في اواسط القرن التاسع عشر على نشر المدارس العربية، وأول من أسس الجامعات بجهود المرسلين (الجامعة الأميركية في بيروت في العام 1867 وبعدها الجامعة اليسوعية في العام 1875 ) .
الى ذلك عمل المسيحيون على إحياء التراث العربي ، ومن أبرزهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وأمين الريحاني وشفيق معلوف والياس فرحات . ومن الشعراء والمؤرخين إيليا أبو ماضي وخليل مطران والأخطل الصغير ونعمة الله الحاج وعيسى إسكندر المعلوف وصليبا الدويهي ورشيد سليم الخوري . وفي الصحافة جرجي زيدان ويعقوب الصراف وسليم وبشارة تقلا . وكان هناك عمالقة آخرون من بينهم ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم وبطرس البستاني ومارون عبود ومارون النقاش .
أكثر من ذلك ، شارك المسيحيون في نقل مفاهيم الدولة الحديثة الى العرب ، كمفاهيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص ، وأكدوا اعتزازهم بإنتمائهم القومي ، كما دعوا الى تحقيق العدالة وفصل السلطات على مستوى الدولة وافتتاح مدارس على أسس قومية طلابها مسيحيون ومسلمون . ولا ننسى فرنسيس المراش وأديب اسحق وفرح أنطون وهم من أهم النهضويين العرب .
وذات مرة – وفي إحدى زياراتي الأخيرة له في مبنى وزارة الخارجية العراقية – سألني طارق عزيز : كيف تفسر يا فؤاد ، بالمنظور الإجتماعي الثقافي ، هذا الهبوط المسيحي الموجع في العقود الأخيرة … وكيف تشرح الإنهيار الذي يعيشه مسيحيو لبنان بعد حقبة مشعة على أكثر من صعيد ؟
وقبل أن أجيب أخبرني سرا يعرفه كل من عايش الحرب اللبنانية الأخيرة ، وهو أن الطرفين المسيحيين اللذين تقاتلا بضراوة في المواجهة الأهلية ، كلاهما كان يطلب مساعدة العراق ، وأضاف : على من يمكن أن نراهن في رأيك ، الجنرال عون أم الدكتور جعجع ؟
سؤال طارق عزيز يختصر محنة المسيحيين اللبنانيين في الزمن الداعشي ، وأعترف أنني لا أملك عنه جوابا ، لكنه يجيب عن نفسه بنفسه .
زمن الروُاد انتهى .