عمره اليوم ست وثمانون سنة، إحدى وثمانون فوق الأرض، وخمس في ذاكرة الوطن الذي أحب، وقلوب محبيه الذين عشقوه.
فؤاد الترك الذي غاب لم يمت.
في ذكراه نستعيد بعض قصيدة كتبها سعيد عقل في ستينيات القرن الفائت:
كالريح، كالعز، كهذي الجبال
نشأت حتى صرن مني خصال
بيتي على الريح ومرمى يدي العز
ولي من هذه الشًم آل.
هذا هو فؤاد الترك: صديق سعيد عقل، وابن زحلة الرابضة في الوادي وعلى كتفيها القمم الشوامخ وأوكار النسور. زحلة، مدينة البسالة والفروسية، المتربعة على القيم، بنت الأصالة والعراقة.
هكذا نراه.
بل هكذا نتلمسه كل يوم في ضمير الأوفياء، وفي ذاكرة الوطن.
أمير في المحافل الدبلوماسية، مقاتل عنيد من أجل ثوابته، يملأ كل الأمكنة بحضوره اللاذع، وشفافيته المذهلة، وطرائفه الذكية، بعناد وأنفة وشجاعة وصفاء ذهني حقيقي.
والدروس التي تعلمناها منه كثيرة:
هو القائل “أنا عامل عند رب عمل واحد هو لبنان”.
والقائل : “كل الوظائف لكل الطوائف وكل الوزارات لكل الكفاءات”.
وهو أول من نادى بفصل القضية اللبنانية عن قضية الشرق الأوسط، وتحويل لبنان إلى مركز لتفاعل الحضارات والثقافات والأديان.
في الذاكرة من جلساتنا الأخيرة معا أنه قال: أنا جار للقصر الجمهوري ، لكنني أدخله ضيفا ولا أستطيع الإقامة فيه لأنه حكر على الموارنة وأنا كاثوليكي.
نذكر أيضا قوله : الفرق كبير بين رجل الدولة ورجل السياسة، الأول يعمل للأجيال المقبلة، والثاني يعمل للإنتخابات المقبلة.
وأيضا: نظرا لخبرتي الطويلة في الحقل الدبلوماسي، أترأس حاليا “منتدى سفراء لبنان” الذي يجمع السفراء جميعا من داخل وخارج الملاك. نحن نضع خبراتنا الطويلة في خدمة الوطن. وفي لقائي الأخير بقائد الجيش أوضحت له أن المنتدى جيش صغير من الخبراء يضم 105 سفراء يختزنون 3 آلاف سنة من التجارب، ولا بد للدولة أن تستعين بهذه الخبرات، خصوصا أن لكل من أصحابها صداقاته العالمية المتعددة، بدءا من رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومة والبرلمانيين.
هذا هو فؤاد الترك الغائب الحاضر، كما عرفناه، وكما عرفته وزارة الخارجية اللبنانية، وتعاملت معه كسفير من خارج المألوف يوم كان أمينا عاما للخارجية وكان التواصل مفقودا بين أهل السلطة.
في العام 1987 أعد وثيقة تؤكد على حياد لبنان في الصراعات الإقليمية والدولية. يومذاك كانت القطيعة قائمة بين الرئيس أمين الجميل والرئيس رشيد كرامي ومن بعده الرئيس سليم الحص، لكن هذه القطيعة لم تمنع الرئيس حسين الحسيني، بموافقة أطراف السلطة المقاطعين، من دعوة اللجان البرلمانية المعنية إلى جلسة خاصة لمناقشتها. البيان الذي صدر عن هذه المناقشة وزع على السفارات والبعثات القنصلية اللبنانية في الخارج، وهو يؤكد على “اعتماد لبنان مقرا دوليا للحوار بين الأديان والثقافات والإتنيات”، على قاعدة أن لبنان لن يكون محايدا في ثلاثة :
– الصراع مع إسرائيل،
– الإجماع العربي إذا حصل،
– الحق والباطل.
كثيرون هم اللبنانيون – ومن بينهم فريق من الأصدقاء أعضاء المنتدى – يؤمنون اليوم أن “وثيقة فؤاد الترك” هذه لا تزال تشكل منطلقا أساسيا لحل أزمات لبنان الكبيرة والصغيرة، وجزءا من وثيقة التفاهم الوطني التي لا تزال تحكم قواعد السلم الأهلي اللبناني.
واليوم يستعيد “منتدى سفراء لبنان” و”المجلة الدبلوماسية” ذكرى الراحل الكبير، للتأكيد – مرة أخرى – على المكانة التي كان يحتلها في قلوب زملائه والتقدير العالي الذي واكبه في كل مواقعه، سفيرا ومفكرا وأديبا وإنسانا.