جيش الاستراتيجيين الجدد

اكتشفت بعد صمت المدافع في لبنان ان الحرب التي حصلت كان يمكن ان تكون أخف وطأة على الأذن والعين والقلب لو أن مقدّمي برامج الـ «توك شو» كانوا أكثر تأنياً في انتقاء محادثيهم من الاعلاميين.
ورغم انني احترم المهنة التي امارسها, فانني اعترف انني مررت بساعات طويلة من القرف الحقيقي بسبب الاداء الاعلامي الهابط الذي تطوّعت له بعض المحطات الفضائية, بالتعاون مع زملاء لبنانيين تحوّلوا فجأة الى محللين سياسيين وخبراء استراتيجيين وأتحفونا بكل انواع السخافات.

لست أقصد بالطبع الأكاديميين او المتخصصين في العلوم العسكرية واستراتيجيات الحروب وادارة المعارك ولست أقصد بالتأكيد الضباط القدامى الذين يملكون تجربة ميدانية او خبرة واسعة وانما اقصد بالتحديد عشرات الصحفيين المحليين الذين تطوّعوا لقراءة أبعاد الحرب الأخيرة بصفتهم «محللين سياسيين او عباقرة» وكأنهم من خريجي «سان سير» او «سانت هيرست» او كبار الأكاديميات العسكرية في العالم.
كانوا مهرجين حقيقيين في ورشة القتل الاسرائيلية, ومع كل إطلالة لهم ­ وما اكثرها ­ كنت اشعر بمغص حاد في معدتي .

افهم جيداً ان تستعين محطة فضائية برجل ذي صفة من أجل قراءة حدث كبير, إلا انني لا استطيع ان اسلّم بهذا الاستعراض المجاني لمجموعة من الحمقى يعقدون ربطات عنقهم الأنيقة ويتطوعون لكلام كثير لا يقولون فيه شيئاً, وكأن على اللبنانيين الذين يقلّبون المحطات ان يعانوا من الحرب مرتين, مرة من العنف والقتل العنصري والتدمير, ومرة من بلاهات لا يبررها اي منطق إعلامي.
أذكر انني شاهدت مرة زميلاً في صحيفة محلية يغرّد «على الهواء» بعبارات انشائية مسطحة, حول الثوابت الاستراتيجية الاوروبية والاميركية, ويحاكم الأنظمة العربية بالجملة والمفرّق, ويبتدع نظريات في «حرب العصابات» والتشطير الأفقي والعمودي لجنوب لبنان وشماله ووسطه, على طريقة نابليون بونابرت وصلاح الدين الأيوبي وهوشي منه وتشي غيفارا, كل هذا باعتداد ظاهر بالنفس وكأنه الرجل الذي لا يخطئ .
والمفارقة ان صاحبنا لم يكن يجد غضاضة في استعمال لغة محشوة بالأخطاء, ومصطلحات ادبية او عاطفية في معرض الحديث عن تقنيات الحرب وأساليب القتال, وكأن كل شيء مسموح في «غابة الأميين» اللبنانية.

بالمناسبة اريد ان اسجل تقديراً خاصاً للمراسلين الحربيين والمراسلات الحربيات, في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة, الذين حصروا مهمتهم الاعلامية بنقل الحقيقة كما يرونها, او ما يفترضون انه الحقيقة, من دون تكلف او زخرفة انشائية, ولم يكذبوا. هؤلاء يستحقون فعلاً شكرنا واحترامنا.
اما الذين قصدوا الشاشات الصغيرة بقصد التنظير التافه, او تسويق الافتراضات المجانية, فقد اساءوا الى انفسهم والى المهنة اكثر بكثير مما يتصورون .
لو كانت المسألة عرساً في قرية او نزهة في غابة, او مباراة في كرة السلة بين فريقين محليين, لما استغربنا هذا الاداء التهريجي.
لكنها الحرب.
والحرب ليست لعبة مسلية يصح معها استساغة الحماقات.
وجيش الاعلاميين السّذج و«المحللين الاستراتيجيين» الذي أتحفنا بنظرياته طوال العدوان, كان اكثر ايلاماً من القتل الأعمى الذي مارسه الاسرائيليون.

شكراً للقرار 1701 الذي وضع حداً لهذه المهزلة.


Posted

in

by