المعادلة تغيرت بالنسبة الى الملف اللبناني كما بالنسبة الى الملف السوري.ومرة أخرى تطفو على السطح حقيقة تاريخية: المصالح الفرنسية لا تتطابق بالضرورة مع المصالح الأميركية في سوريا ولبنان.بكلام أكثر وضوحاً يمكن القول ان ساركوزي البوشي بدأ يراجع حساباته لمصلحة ساركوزي الفرنسي في الأيام الأخيرة وهو يعتبر «اتفاق الدوحة» فرصة مناسبة لهذه المراجعة.وهكذا بكل بساطة قرر أن يعيد الوصل مع دمشق عبر بيروت ومع بيروت عبر دمشق… أما الوصل مع طهران فهو قائم بأشكال مختلفة ولو بدا أن هناك انقطاعاً على خلفية الملف النووي.ومن الواضح ان ساركوزي ليس شيراك. الرئيس الفرنسي السابق كان يتصرف على أساس ان ايران هي «المايسترو» وأن سوريا أحد أطراف اللعبة. اليوم تبدلت الحسابات والرئيس الفرنسي الحالي يعترف صراحة بالدور السوري الاقليمي خصوصا في لبنان في ضوء التقارير التي رفعها اليه برنار كوشنير وزير خارجيته والتي مفادها أن الوساطة الفرنسية في حل الأزمة اللبنانية لم تنجح لأن دمشق لم تكن طرفاً مباشراً فيها. السبب الآخر هو أن واشنطن لم تكن تريد لدمشق أن تلعب دوراً وقد انحنت باريس في هذه المسألة للارادة الأميركية.وفي اقتناع ساركوزي أن تقاطع طهران ودمشق على موقف واحد هو الذي أخرج «اتفاق الدوحة» الى الضوء ولولا هذا التقاطع لما استطاعت الدبلوماسية القطرية أن تسجل اي نجاح والدليل الوساطة القطرية في اليمن بين النظام والحوثيين التي اجهضت قبل أن تولد رغم السخاء القطري الذي التزم تعمير ما تهدم على مدى السنوات الأربع الأخيرة في الجبال اليمنية.لكن بمعزل عن الفشل الفرنسي الأميركي في حل الأزمة اللبنانية ونجاح الحل القطري الايراني السعودي السوري الذي سلّم به الفرنسيون والأميركيون لا بدّ من التوقف عند خمس نقاط أساسية تحكم العلاقات اللبنانية الفرنسية لا يمكن اغفالها مهما تباينت السياسات الفرنسية تجاه لبنان بين عهد وآخر: إن الملوك وبعدهم الرؤساء الفرنسيون منذ القرن السادس عشر يعتبرون لبنان حالة ثابتة في الاستراتيجية الفرنسية المتوسطية والمتوسط عنوان أول في السياسة الساركوزي الخارجية ولبنان وسوريا محطتان أساسيتان في هذه السياسة. إن «دولة لبنان الكبير» سواء كانت خطأ تاريخياً أم انجازاً استثنائياً هي انتاج فرنسي منذ العام 1920 وجزء لا يتجزأ من النفوذ الفرنسي في المشرق مهما تبدلت السياسات اللبنانية او الاقليمية في التعامل مع هذه الدولة. ان العلاقات اللبنانية الفرنسية التي اتسمت خلال سنوات شيراك الحريري بكثير من «الشخصنة» والروح العائلية يفترض في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة أن تستقر في قوالب مؤسساتية واضحة على أساس حسابات استراتيجية واضحة بصرف النظر عن أهمية الحريرية وأهمية الشيراكية كنهج سياسي ورفيق الحريري نفسه يسلم بأن احداً لا يمكن ان يكون أكبر من الوطن. إن مرحلة ما بعد جورج بوش في لبنان وسوريا والمنطقة لا يمكن ولو كان ماكين هو الخلف أن تكون متطابقة مع المرحلة البوشية ومن هنا الحاجة الى اعادة بناء السياسة الفرنسية في لبنان بمقاييس فرنسية لبنانية لا بمقاييس «القيم البوشية» التي انهارت بصورة كاملة في العراق وفلسطين ولبنان وايران وسوريا… وعلى امتداد الشرق الكبير. ان الدور الفرنسي واستطراداً الأوروبي في المتوسط يسقط سلفاً اذا هو التصق بالدور الاميركي الاسرائيلي. دور واشنطن عسكري في شمال المتوسط وشرقه وجنوبه ودور باريس يكمن في تعميق الشراكة الفرنسية العربية واستطراداً الأوروبية العربية تقوم على حسابات المصالح المتوازنة وارساء فكرة الأمن الجماعي باحترام عميق لحضارات المنطقة وتطلعاتها وحرص على تفاعل الثقافات على ضفتي المتوسط.تقاطع العلاقات الفرنسية المتوسطية على هذه الأسس وحده كفيل باحياء الدور الفرنسي في المنطقة الممتدة بين ضفاف البوسفور وضفاف الاطلسي في موريتانيا مروراً بالشرق والجنوب المتوسطين.في أي حال أمام ساركوزي فرصة جديدة مع تلاشي العهد البوشي لأن يثبت أنه قادر على صياغة سياسة مستقلة أو شبه مستقلة لفرنسا في لبنان وسوريا والمنطقة عوضاً عن أن يتعهد الورشة الأميركية كمقاول صغير في مشروع ساقط بكل المقاييس الحضارية والاستراتيجية.