مرحلة المراهقة انتهت وجاء زمن النضج. صار عمر الانترنت اربعين سنة.
وفي عامها الاربعين تتهيأ الشبكة العنكبوتية لأكبر تغيير في طريقة عملها. انها توشك على الانتهاء من خطط استخدام حروف غير لاتينية في عناوين المواقع، والعناوين ستكون عربية وآسيوية ايضاً.
بالمناسبة، آخر الأرقام تقول ان اكثر من نصف مستخدمي الانترنت (وعددهم 1,6 مليار شخص في العالم) لا يستعملون الأحرف اللاتينية في رسائلهم.
والتغيير سوف يخضع لتجربة تمتد عامين يدخل بعدها العرب والصينيون والتايلانديون المواقع بلغاتهم، وتتراجع السيطرة الاميركية على هذه المواقع.
وماذا يعني زمن الانترنت؟
انه يعني ان العالم كله يعيش حقبة جديدة من التواصل الديمقراطي، الناس فيه متساوون (تماماً كمجالس مضغ القات في اليمن)، لأن الشبكة العنكبوتية ليست ملك احد اكثر من الآخر، ولأن المعلومات التي تختزنها الذاكرة البشرية صارت في متناول الجميع، والحصول عليها لا يكلف اكثر من كبسة زر.
امام شبكة الانترنت، كما في داخلها، كل الحقوق محفوظة لكل الناس حتى بعد وفاتهم. وقبل ايام اعلن المسؤول عن موقع «فيس بوك» الاجتماعي، ان اسماء المتوفين المشاركين في الموقع سوف تحذف من الشبكة الافتراضية، وسوف تحفظ ذكراهم بترك صفحتهم الرئيسة مفتوحة امام الاقارب والاصدقاء لتقديم العزاء.
الانترنت خدمة ما بعد الموت، شرط ان يتم ابلاغ الشبكة بالوفاة، وان يتم اثبات هذه الوفاة.
أين كنا؟
كنا نقول ان زمن الانترنت فرض نفسه كواقع اجتماعي- ثقافي- سياسي- تاريخي جديد.
وبصورة خاصة كواقع اعلامي.
بين المليار والستماية مليون الذين يستخدمون الشبكة اليوم (ربع سكان العالم تقريباً) هناك ثلاثماية مليون طالب، وهؤلاء شريحة تتنامى يوماً بعد يوم وبوتائر متسارعة.
هؤلاء سوف تخسرهم الصحافة المكتوبة في العالم المتقدم كما في العالم الثالث، لسبب بسيط هو ان هؤلاء جيل جديد من القراء الالكترونيين الذين يصنعون صحفهم بأنفسهم، ويحررونها ثم يرسلونها على نفقتهم الخاصة (المجانية) ولا يمرون بالمكتبات وباعة الصحف.
اكثر من ذلك، جيل القراء الجديد لا يقرأ ما يقرره رؤساء التحرير في المطبوعات اليومية والاسبوعية والدورية، انه يقرأ «الصحف» التي يختارها، والابواب التي يختارها، من دون وصاية احد، وهو بالتالي لا يقرأ بتوجيه من أحد.
القارئ الالكتروني اكثر حرية واكثر مباشرة واكثر شفافية من قارئ الصحافة المكتوبة.
ومن هنا تتسم القراءة الالكترونية بأرقى درجات الممارسة الديمقراطية.
انها القراءة الفصل بين الحقائق المصنوعة او المزيفة والحقائق الحقيقية.
من هنا لا يستبعد احد ان تدخل معظم الصحف والمجلات الورقية «لائحة الإقصاء»، وتخرج من التنافس، لأن الغلبة ستكون للمواقع الالكترونية في نهاية المطاف.
لماذا؟
لأن الصحف الورقية ادت وظيفتها بجدارة، او بكفاءة نسبية حتى الآن، وجاء زمن الصحافة الالكترونية، اي زمن القارئ الجديد والقراءة الجديدة.
هل تؤخر التحقيقات الاستقصائية الورقية هذا الاستحقاق؟
هل تكسب الصحف الورقية مزيدا من الوقت عن طريق التوزيع المجاني؟
هل يتعين على النظام العالمي، بدءاً بالحكومات، ان يهب الى نجدة الصحافة الورقية؟
هذه الاسئلة كلها مطروحة، لكن ما بات واضحا جدا هو ان اتساع انماط الحياة اليومية لا يلعب لمصلحة الحبر والورق وانما لمصلحة الشبكة العنكبوتية التي دخلت مرحلة النضج الكامل. وهذا يعني ان عدد القراء التقليديين سوف يستمر في التناقص، والواردات الاعلانية سوف تواصل الانحسار، والصحافة المطبوعة سوف تتنازل عن امجادها لصحافة الانترنت، طال الزمان ام قصر.
الصحافة الورقية ماتت، لكن شهادة وفاتها لم تصدر بعد.
ماتت في التلفزيون، وفي الكمبيوتر، وفي الجوال، وفي كل وسائل التواصل المباشر، لأن القراء الجدد يرفضون ان يظلوا تحت رحمة المطابع والشحن الجوي والبري والرقابة الرسمية السياسية والدينية، قبل ان يتمكنوا من معايشة الحدث.
انهم يمارسون حريتهم كاملة في قراءة صحفهم، دقيقة فدقيقة على امتداد ساعات الليل والنهار.
انه زمن الانترنت.
انه الزلزال الدائم الذي تتهاوى على وقعه كل يوم المؤسسات الورقية.
انه الأزمة والحل في الوقت نفسه.
انه زمن جديد.