القصة تقول ان رجلاً كان يسكن مدينة كبيرة، وكان يركب الباص كل يوم ليتوجه الى عمله في أحد المصانع، والرحلة كانت تستغرق خمساً وخمسين دقيقة.
في إحدى المحطات كانت تصعد سيدة وتحرص على الجلوس الى جانب النافذة. وفي الطريق، كانت هذه السيدة تفتح حقيبتها وتخرج منها كيساً، ثم تقذف شيئاً من نافذة الباص، هكذا في كل مرة.
والمشهد كان يتكرر يوماً بعد يوم.
الرجل سأل السيدة مرة: ما الذي ترمينه من النافذة؟
أجابت: أرمي بذوراً.
وعاد يسأل: بذور… بذور ماذا ترمين؟
ردت السيدة: إنها بذور ورود. أنا انظر من النافذة وألاحظ أن الطريق بلا حياة، وأحب أن اسافر وأرى وروداً جميلة الى جانبي الطريق.
وعاد الرجل يقول: لكن البذور تقع على الرصيف وتهرسها المركبات… فهل تظنين أن الورود يمكن أن تنمو على حافة الطريق؟
قالت السيدة: أظن ان الكثير منها سوف يضيع، لكن بعضها سوف يقع في التراب. وسوف يأتي وقت تزهر فيه الطريق.
لكن البذور تحتاج الى الماء، قال الرجل.
وعادت السيدة تقول: أنا اعمل ما عليّ، ويبقى على المطر أن يعمل ما عليه. مهمتي أنا أن أقذف البذور.
وترجل الرجل من الباص وهو يفكر في أن السيدة قد أصابها الخرف، أو القليل من الخرف في أي حال!
ومضت الأيام. وذات يوم جلس الرجل الى جانب النافذة. وألقى نظرة الى الطريق، فاذا بالورود تملأ جنباتها.
ورود كثيرة جميلة زاهية اللون.
تذكر الرجل فجأة السيدة المتقدمة في العمر، التي كانت تنثر البذور هكذا… بلا حساب. هنا تقدم من سائق الباص الذي يعرف السيدة، وسأل: أين هي، وكيف أحوالها؟
ورد السائق: لقد ماتت الشهر الماضي بسبب نزلة صدرية.
عاد الرجل الى مقعده ينظر من النافذة، ويبتسم لمنظر الزهور الرائع.
ولم يتمالك نفسه من التفكير في أن الورود تفتحت، وقد تتفتح كل عام، لكن السيدة راحت ولم تر بذورها وقد نمت وصارت وروداً.
وقالت طفلة تجلس على مقعد أمامي: كم هي جميلة الطريق يا والدي، أنظر كم هي جميلة!
هذه القصة عادت الى ذاكرتي، مع دمعة كبيرة لا أستطيع ان أحبسها، بعد ستة اسابيع على وفاة والدتي.
أمي كانت ذلك الكائن الذي ينثر البذور بلا حساب، كي يصبح الكون أجمل عندما تشرق الشمس.
وكانت صديقتي.
ذات يوم سألتها: كيف تشرحين لي أنك أمضيت العمر كله، تعطين هكذا بلا مقابل؟
قالت بابتسامة: إنه الحب. الذين يحبون يعطون بلا حساب، كما الشجرة تعطي الريح أجمل ورقة فيها!
أحن الى أمي، الى صديقتي.
الى رائحة قهوتها، ورائحة خبزها، ورائحة الطبخة التي تضعها على النار، وبما يشبه السحر تتحول الى حب كبير.
أمي أمضت العمر كله تحب الآخرين، هكذا من دون مقابل، كي يصبح الكون أحلى…
لا أكثر ولا أقل.
تنثر البذور من دون أن تشغلها، ولو مرة واحدة، حسابات الربح والخسارة.
وعندما نبتت ورودها على حافتي الطريق كانت هي تنطفئ ببطء على درب الحياة.
غداً أصلّي لأمي، من دون أن انسى، سيدة الباص التي كانت تنثر بذورها كل صباح.
سيدة الباص هي أمي.