بين ربيعين

الربيع الأول كان أوروبياً، هكذا سمّوه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. بدأ في بولونيا وشق الطريق الى تحولات ديمقراطية في معظم بلدان أوروبا الشرقية والوسطى، ولو أن انتفاضة حركة «تضامن» البولونوية فشلت، لكانت أوروبا اليوم في مسار آخر. والربيع الثاني بدأ مصرياً (تونس مجرّد فصل عابر)، واذا قدر لمصر أن تعبر الى حالة جديدة، جديدة بالفعل، وأن تجسد المشاعر الديمقراطية التي صدحت بها ساحة التحرير، وتصوغ هوية سياسية حقيقية، فإن رياح التغيير التي تشهدها المنطقة، يمكن أن تهتدي مع الوقت، الى نهايات واضحة. لكن الربيعين لا يتشابهان، من قريب ولا من بعيد.
«بريسترويكا» غورباتشوف التي أنهت الحرب الباردة في أواسط الثمانينيات من القرن الفائت، والتي كانت البداية في تفكيك جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وسقوط جدار برلين، وانهيار حلف وارسو، هي التي دشنت الربيع  الأوروبي في هنغاريا وبلغاريا ويوغوسلافيا ورومانيا… الى آخر السلسلة. والبيئة الديمقراطية الحاضنة في ألمانيا الغربية أولاً، ثم على امتداد أوروبا الغربية، هي التي سمحت، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، باحتواء حركة التغيير الأوروبية و«دمقرطتها» والعبور الهادئ (نسبياً) الى أنظمة جديدة، في غضون أشهر قليلة من سقوط الجدار. هذه البيئة ليست من الموروث الثقافي او السياسي في المنطقة العربية، باستثناء تجربة لبنان الطائفية الهشة، وتجربة تركيا الاسلامية المقنعة، والتجربة العراقية الوليدة الغارقة في الدم. البيئة الديمقراطية الحاضنة التي تشكل نموذجا لتحقيق الحد الأدنى من الديمقراطية في دولة تعددية علمانية، ليست موجودة في امتداد المساحة العربية بين الرباط وطهران. الحالة الوحيدة الموجودة هي الارث العثماني، وارث الانتدابين البريطاني والفرنسي فضلاً عن الاستعمار الايطالي، وارث الانظمة العسكرية الاستبدادية التي عقبت الاستقلالات العربية. والمعارضة الوحيدة التي صمدت في وجه الدكتاتوريات، هي معارضة الاسلاميين، فالأنظمة العربية استطاعت على مدى عقود، الغاء كل الاحزاب وكل قوى المجتمع المدني، وكل الطامحين الى السلطة، لكنها عجزت عن الغاء المؤسسة الدينية، أي أماكن العبادة والفكر العقائدي الذي يخرج من الجوامع والمساجد والحسينيات. من هنا علامات الاستفهام الكبرى حول مستقبل الاحتجاجات في الميادين العربية، والمآل الذي تسير اليه الحركات الشارعية، السلمية والمسلحة في آن.
وأخطر ما في هذه الاحتجاجات تفريغ الدين من مضمونه الروحي وتحويله الى أداة سياسية لاقامة نظام سلفي هو أشد خطورة من الدكتاتورية، لأنه يسد منافذ التطور ويشكل تهديداً صارخاً لكل الآليات الديمقراطية. حكم السلفيين، في نهاية المطاف، أكثر شمولية من حكم الاوتوقراطيين، لأنه يوظف الدين في العمل السياسي اليومي، وفي الغاء الآخرين، بدءاً بالنخب الفكرية والقوى العلمانية الحية التي تعتبر المدماك الأول في التحديث والمعاصرة. وارهاصات «الثورة» في تونس ومصر وليبيا، متسربلة بعباءة الدين بصورة أكثر من واضحة، ومتحالفة مع الابداع الذهني للعسكر، وهو «إبداع» مخيب للآمال.ما الذي حصل حتى الآن؟
أسقطوا صدام حسين وأعدموه، طردوا زين العابدين بن علي، ألغوا مشروع حسني مبارك العائلي، وقتلوا القذافي. لكن النتائج لا تنبئ بأن هذه الانقلابات الدموية تشكل بداية عبور الى ديمقراطية حقيقية. البيئة الديمقراطية الحاضنة غائبة، وأنياب الدول الكبرى متحفزة للانقضاض على الخريطة السياسية الجديدة، في ظل شعارات جوفاء. إنه «الربيع العربي» المزيف، لا أكثر ولا أقل.
وفي اقتناع الكثيرين أن الفاسدين الجدد لا يقلون فساداً عن الفاسدين القدامى. بل إنهم أكثر حقداً وقدرة على القتل، بعد عقود من القمع  البلا حدود.
«الربيع العربي» شيء و«الربيع الأوروبي» شيء آخر.


Posted

in

by