بين مجلسين

الحكاية تقول ان عدداً من كبار الضباط المصريين مهتمون باستنساخ ما يسمى «النموذج التركي في مصر»، بحيث تقوم المؤسسة العسكرية (بعد مبارك) بما قامت به المؤسسة التركية (بعد أتاتورك) بدور متقدم في قيادة المجتمع ورسم السياسات الداخلية والخارجية.
ورغم وجود بعض وجوه التشابه بين القوات المسلحة التركية والقوات المسلحة المصرية، فإن الذين يجيدون القراءة في تاريخ مصر مقتنعون بأن «حشر» الجنرالات أنوفهم في السياسة عملية محكومة بالفشل، وسوف تجعل بناء مصر ما بعد التغيير، أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً.
لكن جنرالات مصر ما انفكوا يحاولون، ومنذ تسلمهم السلطة في شباط الفائت وهم يتخذون التدبير تلو الآخر لحماية المؤسسة العسكرية من المساءلة القضائية، الأمر الذي سبق للبرلمان التركي أن جرّد منه الضباط قبل أشهر قليلة. كما أنهم نشروا اقتراحات، عبر ممثلين عسكريين، تقضي بعدم اشراف البرلمان على موازنة وزارة الدفاع، وجعل العملية كلها محصورة في المؤسسة العسكرية. بل إنهم دعوا علناً الى انشاء «مجلس وطني للدفاع» يشبه «مجلس الأمن القومي التركي» الذي تم انشاؤه في العام 2003. ومشاركة الجيش في لجنة الانتخابات المصرية تبدو مشابهة جداً للجنة التركية العسكرية لمراقبة المجتمع، عبر عضوية عناصرها في المجالس الحكومية كافة.
وما حصل حتى الآن أن تحرك الجنرالات المصريين كان حذراً، وهم يعلنون بين الحين والآخر أنهم سوف يرضخون لأحكام الدستور المصري الجديد، والسبب ان الثقة غير متوافرة بين «المجموعات الثورية» والمؤسسة العسكرية، لأن هذه المجموعات تتخوف من أن يكتسب الجيش دوراً سياسياً مباشراً على المدى الطويل.
والحقيقة أن تطوير دور للضباط المصريين، على شاكلة النموذج التركي، يفترض أن هناك دعماً نخبوياً واسعاً لمثل هذا التوجه. وفي تركيا تمتع الضباط قبل الحقبة الاردوغانية بمساندة وتأييد العديد من القضاة والمحامين والأكاديميين والاعلاميين والشركات الكبرى. ثم ان الاتراك العاديين كانوا يشعرون بالالتزام بالدفاع عن «الكمالية» ضد مجموعات الاسلاميين والأكراد الذين كانوا يعتبرون قوة من خارج التيار الوطني.
بخلاف ذلك يبدو أن المكان الوحيد الذي يتمتع به الضباط المصريون بالتأييد هو في أوساط جماعة الاخوان المسلمين، وهذا له معناه الواضح. وهذه الجماعة هي التي أنزلت تظاهرة مليونية الى الشارع لدعم المجلس العسكري، لكن الضباط يعرفون أن هذا الدعم ليس تأييداً للمؤسسة العسكرية بقدر ما هو فرصة لاظهار ضعف «المؤسسات الثورية» والجماعات المعارضة الأخرى والليبراليين والأحزاب العلمانية.
وبخلاف ما عرفته تركيا، في مرحلة ما بعد أتاتورك، من التزام واضح بالايديولوجيا الكمالية، فإن العقيدة العسكرية للمجلس الأعلى للقوات المصرية ليست واضحة. والمصريون، بصورة عامة، ليسوا من عشاق العلمانية أو الديمقراطية أو التزمت الاسلامي أو… التسلطية، ويبدو أن الضباط الذين يدركون ذلك جيداً، مهتمون بالحفاظ على مصالحهم الاقتصادية أولاً، وبالابقاء على الشرعية السياسية للقوات المسلحة التي كانت العمود الفقري للنظام (الفاشل) على مدى ستة عقود كاملة.
لماذا هذا الكلام؟
السبب بسيط جداً وهو أن المجلس العسكري الأعلى مهتم اليوم بتسليم السلطة الى أي فرد (أو جماعة) يضمن له استمرار مصالحه وشرعيته، وهو يتخذ قراراته (الانتهازية أحياناً) على ضوء هذا الاهتمام.
والدينامية والطاقة والابداع التي أظهرها المصريون منذ سقوط مبارك، عجزت حتى الآن عن تجاوز هذه العقبة الأساسية في ارساء الديمقراطية الجديدة، لأن القبضة العسكرية قوية، ولأن «أردوغان المصري» لم يظهر بعد.


Posted

in

by