منذ بدأ الحديث عن “شهود الزور” في اغتيال رفيق الحريري وأنا ـ ولست وحدي ـ أشعر أنني شاهد زور على طريقتي منذ أكثر من ستة عقود.
الكذبة الأولى التي صدقناها وبصمنا عليها، جيلي وأنا، هي القومية العربية وإيديولوجية الحداثة والتحرير والوحدة، التي جسدها ما كان يسمى “التيار القومي العربي”. هزيمة حزيران (يونيو) 1967، بكل نتائجها العسكرية والسياسية والثقافية، وكل تداعياتها الموجعة، برهنت بما لا يقبل الجدل، ان هذا التيار الذي أسس الدولة الشمولية القومية الثورية ـ الاشتراكية، على اسم تحرير فلسطين، سقط في التجربة، وأثبت عجزه الكامل في أول مواجهة مصيرية.
الكذبة الثانية التي مشينا فيها كانت التغيير، أي تأسيس دولة جديدة على اسس الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. بعد نصف قرن على الهزيمة الاولى، والهزائم اللاحقة على كل المستويات، لم تولد هذه الدولة بعد، لا على يد الجامعة العربية، ولا على يد الأنظمة التقليدية، من الملكيات المتوارثة الى الجمهوريات الوراثية. ما حصل هو الانقلاب الشامل في موازين القوى العالمية على اثر انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، ثم المراوحة في العقوبات الدولية والحصار الشامل، السياسي والثقافي والاقتصادي، و”العبور” الى اسرائيل عن طريق التطبيع المكشوف ومشاريع السلام، لا من خلال استراتيجية تحرير شاملة لفلسطين والأراضي المحتلة.
على هذه الحقبة أيضاً كنا شهود زور، شاركنا اسرائيل والغرب في الحصار، بإرادة منا أو بدون إرادة.
الكذبة الثالثة التي مشينا فيها هي الثقافة الاسلامية الجهادية التي رعتها الولايات المتحدة وبعض اجهزة الاستخبارات الغربية في مواجهة المد القومي والمد الشيوعي، في الخمسينيات والستينيات، كما في مواجهة حركة التحرر الوطني، قبل أن تنقلب عليها بعد سقوط التيار القومي، تحت شعار الفوضى البناءة، وإعادة تشكيل الشرق الاوسط، والشراكة في الحرب على الارهاب، اي الحرب على المقاومة العربية والاسلامية ضد الاحتلال في فلسطين والعراق. المشروع الجديد اليوم، الذي نشارك فيه بوعي او من دون وعي، هو اعادة تشكيل العالم العربي على مقاس عصر العولمة وطموحات الامبراطورية الاميركية، أي بناء نظام سياسي عربي يخدم ثقافة الهيمنة ومصالح اسرائيل تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الهويات العرقية والطائفية… إنه الشرق الاوسط “البوشي” إذا صح التعبير الذي يطوي صفحة التيار القومي، والمرحلة الديمقراطية، كما صفحة الجهاد الاسلامي، ويلغي التاريخ العربي المعاصر لمصلحة التهويد والعولمة… ويعمق طعم الهزيمة.
في هذه المراحل كلها لعبنا دور شهود الزور ولا نزال.
وقبل أن أنسى، أريد أن اسجل معاينة أخيرة تتصل بلبنان.
بعد تسعين سنة على رسم الحدود الاولى لـ”لبنان الكبير”، وسبعين سنة تقريبا على الميثاق الاول، وعشرين سنة على الميثاق الثاني، نحن نعيش كذبة كبرى هي لبنان الدولة ولبنان الوطن.
ليس صحيحاً أننا ميثاقيون، وليس صحيحاً أننا وطن.
لبنان الميثاق وهم كبير، ولبنان الوطن وهم أكبر.
لن أذهب الى حد القول بأننا، دولة ووطناً، كذبة تاريخية رسمها الفرنسيون وصدقناها على أمل أن نكون “شيئاً ما” على شاطئ المتوسط الشرقي. لكن ما حصل بعد ستة عقود “استقلالية” أننا نرهن مصائرنا لأمراء الطوائف والقبائل والعشائر، القديمة والجديدة، اسلاميين هنا وذميين هناك. نحن، باختصار، حصيلة الهزائم العربية المتكررة والمتمادية، من فلسطين حتى الأطلسي مروراً برصيف النفط الكبير.
لسنا وطناً ولسنا دولة. نحن “لا شيء” أو “لا شيء تقريباً” بمقاييس الحرية والسيادة والكرامة والمستقبل.
نحن مجرد بقايا في مزبلة التاريخ المعاصر.
… وشهود زور على كل هذه الحقائق.