أعرفه منذ ست وثلاثين سنة، ولا أدعي أنني قريب منه أكثر من زملائه وأصدقائه، لكنه رجل لا يفارق ذاكرتي.
في كانون الثاني 1980 كان فؤاد الترك سفيراً للبنان في طهران، وكنت أنا، الصحافي الشاب، أشرف على مجلة «الأسبوع العربي»، التي كانت يومذاك في موقع مهني متقدم . الحدث كان عودة الخميني وقد استقطب اهتمامي واهتمام العالم كله.
في بدايات «الزلزال» اتصلت بفؤاد الترك وأوفدت فريق عمل إلى طهران كما إلى قم، بقصد معاينة المشهد الإيراني الجديد والتواصل مع الملالي .والمفاجأة كانت أن فريق «الأسبوع العربي» العائد من المهمة حمل إلي من السفير الذي لم أكن قد التقيته من قبل ، رسالة شخصية، لا أزال احتفظ بها حتى الآن كذخيرة غالية. أقرأ في الرسالة: «سميي العزيز فؤاد، معرفتي الروحية بك تعود إلى سنوات، وقد نَمَتْ عبر قلمك المعافى ورصانة الرأي عندك وأناقة الكلمة، وتعززت بفضل أصدقائنا المشتركين (…) وعلى أمل أن تقترن المعرفة الروحية بالمعرفة البصرية في مستقبل غير بعيد، أبثك صداقتي ومودتي».
اليوم أشعر أن علاقتي بالرجل الكبير وبـ«المجلة الدبلوماسية» بدأت بتلك الرسالة، وأنني فخور بالعلاقتين معاً. أشعر أيضاً أن القيم التي تجمعني بالسفير الراحل لا تزال تنمو ، ويهمني أن أتوقف عند اتصال أجراه معي قبل وفاته بساعة واحدة. اتصل بي من غرفة العناية الفائقة، وبصوت بطيء ومتهدج قال لي: بعد خروجي من المستشفى سوف نلتقي… أنا مرتاح لادائك في المجلة، وواثق من قدرتك على تطوير هذا الاداء، عاماً بعد عام. هذا الكلام حفزني ولا يزال على بذل المزيد من الجهد في إصدار «المجلة الدبلوماسية» ، بالتشاور الدائم مع رئيس المنتدى السفير خليل مكاوي الذي أعاد تكليفي ومحضني ثقته، والتعاون الوثيق مع رئيس التحرير السفير سمير حبيقة وأعضاء الهيئة الادارية. واليوم، بعد أربع سنوات على غياب السفير الترك يسعدني أنني بدأت أفي بالتزاماتي المهنية.
هذا الغائب الحاضر أحبّه.
كان فكراً خلاقاً يرتقي إلى القيم الإنسانية الخالدة.
وكان استثنائياً بكل معنى الكلمة، وحالة مشعة لا تشبه إلا نفسها. عامراً بالإيمان كان، الإيمان بالله والإنسان والوطن، وقيادياً مرهفاً عابراً للطوائف والمذاهب والولاءات الصغيرة، يفاخر بانتمائه إلى طائفة واحدة هي لبنان.
دبلوماسي حاد الذكاء، صلب في التزاماته، يستلهم سلم قيم رفيعة، مرن في التعاطي مع الأزمات الكبيرة بروح رسولية وصفاء نفسي لا يضاهى.
رجال في رجل، وجمع في مفرد، محاور لبق، مستمع صبور، صاحب حجة لا ترد، دمث الأخلاق، طيب المعشر، وقادر على التواصل مع الكبار بحكمة وشجاعة ونزاهة.
في غيابه يفتقد لبنان ألمعياً حقيقياً، ومحاوراً لا يقاوم بمهابته وسحره وخفة ظله، ونقائه وطيبته، على المستوى الشخصي والاجتماعي، كما على المستوى الوطني.
شوقنا إليه يتضاعف مع كل ذكرى، ونحن في حنين دائم إلى اطلالته وابتسامته الراقية ووهجه الآسر. سرّ قوته في أنه كان متصالحاً مع نفسه، لا يعير أي اهتمام للمناورات المألوفة في السياسة اللبنانية، في أوساط صانعي القرار، وقد عاش حياته على هدي ضميره من خارج منطق الوظيفة ومنطق المحاصصة والمكاسب والولاءات الصغيرة، وفياً للوطن الذي عشق، والقيم التي بها آمن.
في ذكرى غيابه نشتاقه مثالياً رائعاً وقلباً كبيراً، يشع نبلاً وثقافة وحباً. ليته كان هنا يشارك في الورشة الوطنية الكبرى في الزمن الرديء الذي يعيشه لبنان والمنطقة.
شبعنا نفاقاً وفساداً ومجازر و«داعشيات» وعنصريات في مقاربة القضايا المصيرية، ونحتاج فعلاً إلى تجديد إيماننا برؤى خلاقة تهتدي بها الشعوب في تطلعها إلى عالم معافى وحياة كريمة.
زمن القتل يقتلنا، أوطاناً وتراثاً وحضوراً ومستقبلاً. متى نوقف مسيرة الانتحار؟