هل مات الطائف ؟

ربع قرن مضى على “اتفاق الطائف” اللبناني الذي لم يطبّق حتى الآن، وكل شيء يدلّ على أنه فاصل قصير في حرب طويلة بدأت في خمسينيات القرن الفائت ولم تنته بعد.
والذين يعاينون التحوّلات التي تعيشها المنطقة في “الزمن الداعشي”، بعد إفلاس كل الرهانات القومية واليسارية والدكتاتورية والإسلامية المعتدلة، يدركون بما لا يقبل الشك أن العالم العربي كلّه مقبل على تحوّلات كبيرة، وأن قدرة لبنان على احتواء التداعيات الإقليمية المتعاظمة محدودة جداً إن لم تكن معدومة. وليس سراً أن العواصف العاتية التي تضرب سوريا والعراق واليمن وليبيا، فضلاً عن الغليان الدائم الذي تشهده مصر وتونس والبحرين، تضع لبنان أمام حرج كبير، لأنه لا يستطيع أن يعزل نفسه عن أعاصير المنطقة ، وهو بالتأكيد جزء من محيطه الجيوسياسي لا جزيرة في بحر هادئ.
اليوم، وبعد خمسة أشهر تقريباً على خلو موقع الرئاسة الأولى، يدرك اللبنانيون جميعاً، بل العالم كله ، القريب والبعيد، أن الدستور اللبناني لم يعد “شغالاً”، وأن أزمة تكوين السلطة باتت حقيقة لا يجادل فيها أحد، وأن الدولة مفككة الأوصال، بمؤسسات معطلة ، وسيادة منتهكة، وخيارات مستحيلة، ومستقبل مجهول.
كل هذا يعني أن “الطائف”، كصيغة وفاقية، مات ولم يدفن بعد، لأن لبنان تغيّر، والعالم العربي بدوره تغيّر، والثوابت الإقليمية والدولية تغيّرت، فضلاً عن الزلازل العاتية التي تضرب كل المسلّمات وتنسف كل المعادلات التي قام عليها النظام العربي منذ الإستقلالات.
والمشهد التغييري بدأ يتّخذ منحى أكثر وضوحاً منذ اجتاح ما سمي “الربيع العربي” المساحة الممتدّة بين الرباط وطهران. والبعض يقول إن اغتيال رفيق الحريري في العام 2005 كان الشرارة الأولى في تفجير البنية السياسية القائمة، وفي خلخلة “إتفاق الطائف” بصورة خاصة. وإذا كان صحيحاً أن اللبنانيين مختلفون حول المحكمة الدولية وسلاح المقاومة والخيارات الكبرى في السياسات الإقليمية، فصحيح أيضاً أن أطرافاً لبنانية فاعلة تعمل على تعزيز دورها في آليات صنع القرار، وتعديل النصوص التي تضمن المكاسب الجديدة، ولو اقتضى ذلك إحداث إرباكات متلاحقة في عمل المؤسسات الدستورية. يزيد الوضع تعقيداً أن لبنان (كما كان يقول السفير فؤاد الترك) محكوم بجارين صعبين: الأول هو سوريا التي لا تعترف به، والثاني هو إسرائيل الذي لا يعترف بها… بقدر ما هو محكوم بالزلازل التي لا تهدأ على امتداد المنطقة.
التحدي إذاً كبير وهو يتطلّب استنفاراً حقيقياً على المستوى الوطني، يمليه العصف الدامي الذي يلف دول الجوار في “الزمن التكفيري”. ومن الواضح أن المرحلة الجديدة تشكّل إنقلاباً على ثوابت العقود الأخيرة بعدما سقطت كل الإيديولوجيات بما فيها الخطاب العلماني الإشتراكي ، واستطراداً المشروع القومي لمصلحة الخطاب الديني الذي يجتاح المشرق والمغرب معاً، على أنقاض أنظمة سلطوية متخلّفة بكل المقاييس السياسية والأخلاقية.
لبنان يعيش إذاً مجموعة تحدّيات متراكمة تزيدها حدّة الحرب الأهلية الإسلامية والتصحّر السياسي الذي يجتاح المنطقة، وهذه العوامل مجتمعة تهدّد الصيغة اللبنانية التي كانت حتى سنوات خلت تضمن الحدّ الأدنى من المساواة على قاعدة المواطنة. وفي تقدير العارفين أن الجماعات المسيحية العربية بصورة عامة، واللبنانية بصورة خاصة، تعيش أزمة وجودية عنوانها انحسار مساحة التنوّع والديمقراطية وتعاظم السياسات الإلغائية. ومن المسلّم به أن وحدة لبنان كانت دائماً مهدّدة بالانفجارات السياسية الإقليمية، مرّة في خمسينيات القرن الفائت، بعد حرب السويس مع صعود المدّ القومي العربي، ومرّة في الستينيات بعد بروز المقاومة الفلسطينية وما سمي بـ”العمل الفدائي” في جنوب لبنان. في المرحلتين كانت الدولة شبه معطّلة ، وعندما استعادت حضورها من خلال دستور الطائف، بعد خمس عشرة سنة من الصراع الدامي، تبيّن أن مسار المصالحة لا يزال معطّلاً، وأن سوريا التي انفردت بتطبيق الطائف تفرّدت في الوقت نفسه بتعطيل مفاعيله مستندة إلى تفويض أميركي – سعودي، بعدما شاركت في حرب تحرير الكويت.
وما حصل فعلاً أن هذا الإتفاق لحظ مناصفة فعلية في مجلسي النواب والوزراء لكن التمثيل المسيحي الحقيقي سقط نتيجة تطبيق قوانين إنتخابية غير عادلة، الأمر الذي أدّى إلى إحباط مسيحي ما انفك يتزايد، وإلى حركة إعتراضية صامتة في صفوف المسيحيين إحتجاجاً على تهميش دورهم في القرارين السياسي والأمني معا. وقد جاءت الفورات الإقليمية الأخيرة تزيد من هواجس المسيحيين الذين يعاينون بأنفسهم حجم الأخطار المتعاظمة التي لا تهدّد فقط حقهم في الحرية والمساواة، وإنما تهدّد وجودهم بالذات.
لا بد هنا من التذكير بأن التجارب علّمت مسيحيي لبنان والمنطقة أن الحماية الحقيقية التي يتطلّعون إليها لا يمكن أن تأتي من خارج الحدود، وأن الغرب لا يمكن أن يشكّل مصدر إطمئنان، أياً كان هذا الغرب. وإذا كان “الخط الداعشي” يتهدّد المسلمين أنفسهم، فإن خوف المسيحيين على وجودهم وعلى حقوقهم السياسية له ما يبرّره فعلاً لا قولاً.
من أين يبدأ الحل؟
يقيني أن الحل في لبنان يبدأ بخمسة مسلّمات:

  • إعادة تكوين السلطة من خلال توافق لبناني – لبناني تاريخي على صياغة جديدة للدستور والميثاق.
  • إستعادة البنية السيادية للدولة عن طريق تعزيز قدرات الجيش وقوته الرادعة.
  • ترتيبات جديدة تضمن أمن الحدود اللبنانية – السورية، بالتعاون مع مجلس الأمن الدولي، أسوة بالضمانات المعمول بها على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
  • إحتواء مشكلتي اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، لدرء الأخطار المصيرية، في انتظار أن تتبلور المواجهات الدولية والإقليمية عن شرق أوسطي بديل.
  • تجاوز دولة الطوائف والمذاهب إلى الدولة المدنية العادلة بإيقاعات زمنية متسارعة، من أجل تجنيب لبنان خطر الإنجراف إلى الحروب الدينية الجديدة.
    هذه العناوين الخمسة هي الطريق إلى الوطن، وما عداها قفزة في اتجاه الهاوية.
    العبور إلى الدولة المعاصرة هو الحل والمحميات الطائفية مشروع انتحاري ، طال الزمان أم قصر.

Posted

in

by