فجأة قفزت مصر من صناديق الاقتراع الى صناديق الذخيرة، وعلى مسرح اللامعقول المصري تكثفت الأسئلة – الألغاز التي تبحث عن أجوبة:
– هل إن ما يجري، في مرحلة ما بعد مرسي، صراع إسلامي – إسلامي، أم صراع لا علاقة له بالإسلام من قريب أو بعيد، لأنه بطبيعته يعود الى حقبة ما قبل الإسلام؟
– هل إن المواجهة الكارثية، أو شبه الكارثية،هي في النهاية فعل حسابات خاطئة: اخوان متغطرسون أساءوا قراءة مكاسبهم الانتخابية، ومعارضة متهورة تصر على اسقاط الرئيس من دون أن تملك القوة اللازمة لاسقاط الإسلاميين؟
– هل إن الفصل اللاحق، بعد انحياز الجيش الى المعارضة الشعبية، ممارسات صدامية اقصائية بدرجة أكبر من العنف، أم سياسات تصالحية تعيد ترميم الجسور التي انهارت بين مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية؟
– استطراداً، من يرسم قواعد اللعبة الجديدة: المقاومة اليائسة من جانب الاخوان، أم الانتصار الوهمي الذي تتسلح به المعارضة، وأين موقع المؤسسة العسكرية الحقيقي في الآليات الديمقراطية الجديدة التي تتجسد في ما بات يسمى “الثورة الثانية”؟
في مقاربة هذه الأسئلة لا بد أولاً من التسليم بأن ثمة مغالطة شائعة في الحديث عن الإسلام والديمقراطية، مفادها أن السبب الأول في نشوء الدكتاتوريات العربية والإسلامية يكمن في موقف الإسلام ذاته كدين، من الحرية.
اقتناعي أن هذه المغالطة مقولة ظالمة مقصودة تعبر عن جهل لحقيقة الإسلام أو تجاهل مقصود.
هذا التشويه لحقيقة الإسلام ناتج من سببين: الأول بعض الاجتهادات في الغرب المسيحي التي يعمل أعداء الإسلام على ترويجها (بصورة خاصة في أعقاب 11 /9 /2001)، والثاني التخلف العقلي الذي أصيب به العالم الإسلامي، والذي جعل الإسلام في واد والمسلمين في واد آخر، خصوصاً في ما يتصل بالقيم الانسانية الكبرى وفي رأسها الحرية.
يحدث هذا استناداً الى مقولة مفادها أن “دين محمد دين السيف”، رغم أن جمال الدين الأفغاني، ومنذ أكثر من مئة عام، أطلق عبارته الشهيرة ومفادها “ان الإسلام محجوب بالمسلمين”. وحقيقة الأمر أنه لا بد من النظر في آيات القرآن الكريم، في ضوء تسلسلها التاريخي، كما يقول علماء الأصول، وحين يعتمد هذا النهج تبرز أمام الدارسين وبوضوح صارخ لا مجال فيه للبس، مجموعة من الحقائق الكبرى التي ترتبط إحداها بالأخرى، لتشكل جزءاً لا يتجزأ وموقفاً فلسفياً محكم التكامل من الحرية.
العلة، إذاً، كما نقول في المسلمين وليست في الإسلام، تماماً كما كانت العلة، في بعض المراحل، في المسيحيين لا في المسيحية كدين. وما كانت الأديان السماوية يوماً عقبة تحول دون الخروج من التخلف.
وقد عرف الغرب المسيحي نفسه قبل نهضته مراحل أشد تخلفاً من تخلف العالم الإسلامي اليوم، عندما استغل رجال الدين الدين نفسه لفرض سلطانهم وبسط طغيانهم على الناس، ولم يقل أحد يومذاك أن الاستبداد طبع أصيل في العالم المسيحي وأن الدكتاتورية جزء من التراث المسيحي.
وليس سراً أن الغرب عرف قبل نهضته مراحل أشد تخلفاً من تخلف العالم العربي اليوم، وأن أوروبا والعالم المسيحي كله كانا غارقين في أحلك الظلمات يوم حمل العرب والمسلمون مشعل الحضارة ينيرون به الكون كله. إن العروبة ليست بالضرورة مرادفة للتخلف، والإسلام من هذا التخلف براء، وكل ما في الأمر أن في العالم العربي رواسب ألف سنة أو يزيد من عصور الانحطاط اعقبتها عهود استعمار لم تكن لها مصلحة في المساعدة على إزالة هذه الرواسب، بل انها عملت في الكثير من الأحيان على تجذيرها، وكأنها دلائل عافية أو خصائص ثابتة في الشخصية القومية، وقد زينت للناس أن بريق المظهر يغني عن سلامة الجوهر.
وكما أن نهضة الغرب لم تتحقق إلا بعد التحرر من الرواسب التي تراكمت على المسيحية الأصيلة، فشوهت وجهها وجعلت منها أداة في يد المحاكم الدينية وطغاة الاكليروس وأرباب الاقطاع، كذلك فإن نهضة العالم العربي الحقيقية لن تتحقق إلا انطلاقاً من تحرر المسلمين من كل الشوائب التي تراكمت على الإسلام، في الوعي أو اللاوعي، وابتعدت بهم عن جوهر الدين الحنيف.
يصح في المسلمين اليوم قول من قال في مطلع القرن الفائت بعدما زار أوروبا وعاد الى مصر: وجدت في أوروبا الإسلام ولم أجد مسلمين، فلما عدت منها وجدت مسلمين ولم أجد الإسلام. انه الامام محمد عبده، الذي يؤمن بعمق أن الإسلام حرية وأنه لا يصح الحديث عن كبوة الإسلام ونهضة الإسلام، وعن تأخر الإسلام وتقدم الإسلام. الإسلام لا يكبو ولا ينهض، وإنما المسلمون هم الذين يكبون وهم الذين ينهضون، وربما كان مقدار فهمهم لحقيقة دينهم وراء الكبوة ووراء التخلف، ووراء التقدم ووراء التأخر في نهاية المطاف.
أين كنا؟
كنا نحاول الاجابة عن السؤال الذي يطرح نفسه حول عودة مصر الى حقبة “ما قبل الإسلام” وسط جدل يتناول كل أنواع السلفيات: السلفية الاصلاحية، السلفية العلمية، السلفية الجهادية، السلفية اللاعنفية، سلفية الثورة، وكل أنواع السلفيات الجهادية المحلية.
وكنا نسأل عما اذا كان اللاعبون الجدد في المشهد المصري العنفي، قادرين على التفاهم على قواعد اللعبة الجديدة والنظام السياسي المطلوب للمرحلة المقبلة.
والمطلوب، كما هو معروف، الخروج من الاثارة والتحريض والقتل في الشوارع والميادين، الى توافق على معالجة الوضع الاقتصادي المزري، وطمأنة الحراك النضالي، وفرض سلطة القانون، عوضاً عن احتكار السلطة وتطبيق أجندة إسلامية صارخة.
الأمل كبير في أن لا تتكرر الخطيئة الأصلية التي شهدتها “الثورة الأولى”، وتتحول الى خطيئة أصلية من نوع آخر تقوّض “الثورة الثانية” ومرتجياتها، وأن لا يمارس “العهد الجديد” العنف نفسه الذي مارسه الاخوان في اقصاء خصومهم السياسيين أو من يعتبرونهم خصوماً.
ولنا الى الأسئلة المتبقية عودة.