الواقعية النووية

بعد زمن الواقعية السياسية جاء زمن الواقعية النووية ، وهي سياسة أو دبلوماسية تستند، أولا، الى البراغماتية في مقاربة العوامل أو الأعتبارات العقائدية

والماكيافيلية غير الأخلاقية .

تحضرني الفكرة على وقع التهديدات الكورية النووية التي تعاظمت في الأسبوعين الأخيرين وهي تهديدات تستدعي فلسفيا ” التفكير في التفكير ” ، أي اعادة النظر في كل قرار أمني أو سياسي أو استراتيجي بهدوء عقلاني كامل ، خشية الأنزلاق الى اجراء تدميري .

الأمر هنا يشبه البحث عن الحقيقة الحقيقية ، أو معرفة المعرفة ، وهو بحث بالغ التعقيد عنما تكون الصواريخ البالستية النووية  مصوبة الى المدن الكبرى من مسافة آلاف الكيلومترات.

والواقع أن اللعبة التي نحن في صددها تنسف كل قواعد المنطق السياسي أو الأمني أو الأيديولوجي ، وهي أقرب الى عملية تدمير الذات وتدمير الآخرين ، بالطريقة الكاميكازية ، من دون أقامة أي اعتبار للتقاطعات الممكنة بين البعد الأمني والبعد السياسي في ادارة الأزمات .

كوريا الجنوبية والولايات المتحدة مدعوتان هنا ، والآن، الى البحث عن هذه التقاطعات قبل أن يقود الخيار النووي المفتوح الى نهاية كارثية .

وفي البحث عن المقاربات الواقعية الممكنة لتجاوز الأعصار ، نتوقف عند بعض الأخطاء التي ارتكبها الغرب ، بدءا بالولايات المتحدة ، في التعاطي مع الملف الكوري الشمالي .

الخطأ الأول حصل مباشرة بعد انهيار الأتحاد السوفياتي في العام  1991. يومها ، قبل 22 عاما ، كان مؤسس كوريا الشمالية كيم ايل سونغ على حافة الانهيار الأقتصادي ، فضلا عن تراجع قوته العسكرية وتعاظم عزلته السياسية . وفي تلك الفترة ، وعبر مقابلات صحفية مع “واشنطن تايمز” و”أساهي شمبون ” ،أعرب كيم بوضوح عن استعداده لأقامة علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة ، ولم يكن قادة سيول وواشنطن على استعداد للأصغاء ، بل أداروا الأذن الصماء وأهدروا فرصة تاريخية .

الفرصة الثانية التي أهدرها الأميركيون جاءت في أواخر التسعينيات ، وتحديدا في العام 1999 ، عندما زارمبعوث الأميركي وليام بيري بيونغ يانغ ،تجسيدا لسياسة الأنفتاح التي دشنها بيل كلينتون في ذلك الوقت .يومذاك لم ترق هذه السياسة الى مستوى التطبيع ، ولا حتى الى مشروع تطبيعي …بعده جاء جورج بوش الذي عسكر السياسة الخارجية الأميركية بصورة كاملة ، بعدماانعطف بصورة دراماتيكية عن التوجهات الكلينتونية .

الدليل أن كوريا الشمالية ماطلت في رد الزيارة ، ولم ترسل نائب المارشال جو ميونغ روك الى واشنطن الا في تشرين الأول من العام 2000 أي عشية  انتهاء فترة كلينتون الرئاسية . عن هذه الفرصة المهدورة يقول يون يونغ كوان وزير خارجية كوريا الجنوبية السابق واستاذ العلاقات الدولية في جامعة سيول الوطنية: ما زلت أتذكر الصعوبة التي واجهتها كوزير لخارجية كوريا الجنوبية في إقناع إدارة بوش بالتفاوض مع كوريا الشمالية بدلاً من الاكتفاء بفرض الضغوط والانتظار إلى أن تستسلم كوريا الشمالية. آنذاك، كانت كوريا الشمالية تعيد تشغيل منشأتها النووية في يونغ بيون وتنتج البلوتونيوم، الأمر الذي عزز موقفها التفاوضي في مواجهة الولايات المتحدة. ثم أهدِر وقت ثمين قبل أن تجري كوريا الشمالية تجربتها النووية الأولى في العام 2006. ورغم أن بوش حول سياسته نحو المفاوضات الثنائية مع كوريا الشمالية بعد بضعة أشهر، فإن نظام كيم أصبح أكثر عنادا.

وبالفعل، أصبح سلوك كوريا الشمالية من ذلك الوقت أكثر تقلبا. وكان إغراقها السفينة الحربية الكورية الجنوبية تشيونان وقصف جزيرة يونبيونغ في العام 2010 تصرفاً غير مسبوق تسبب في رفع التوترات بين شطري شبه الجزيرة الكورية إلى أعلى مستوياتها في عقود. واليوم، وفي أعقاب التجربة النووية الثالثة في كوريا الشمالية، يبدو الأمر وكأننا دخلنا المرحلة الأكثر خطورة على الإطلاق مع إعلان النظام بوضوح عن عزمه عدم التنازل عن خياره النووي أبدا.

ما هو المطلوب اليوم ؟

المطلوب أولا وأخيرا العودة الى فلسفة جون كينيدي في مقاربة أزمة الصواريخ الكوبية . في تلك  المقاربة لم يحاول كينيدي اذلال الأتحاد السوفياتي أو نيكيتا خروشوف ، وتعامل مع التحدي ببراغماتية ذكية لمنع اندلاع حرب عالمية ثالثة.

كينيدي  استلهم في حينه الروحية التي اعتمدها فون ماترنيخ بعد هزيمة نابليون . ماترنيخ لم يحشرفرنسا  في الزاوية وأعاد معها  الحدود الى ما كانت عليه قبل الحرب .

هل يقتدي باراك اوباما بمترنيخ وكينيدي في التعاطي البراغماتي مع الملف النوووي الكوري الشمالي ؟

الظن الأرجح أنه سوف يفعل بالتنسيق مع الصين ، انطلاقا من الأعتراف بمستلزمات أمنهاالوطني ،وأنه سوف يفعل بتبصر وشجاعة.

الرئيس الأميركي رجل عاقل وهو يهيء لتغليب المساعدات الأنسانية على ما عداها ، في انتظار فرصة ملائمة للتطبيع .

انها الواقعية النووية عنوان المرحلة .


Posted

in

by