فجأة عاد رسامو الخرائط الى المنطقة . عادوا على طريقة السحرة والمشعوذين، وكأن الجيوش الأوروبية استأنفت الغزوات التي عرفناها بين القرن السابع عشر والقرن العشرين ، في زمن الحملة الفرنسية على مصر والحملات الأنكليزية على أراضي الشرق .
عادوا يحاولون ، مرة أخرى ، اعادة تركيب حدود المقاطعات العثمانية السابقة ، وحدود سايكس بيكو ، في غمرة اجتهادات حول دويلة هنا ودويلة هناك …وكأن الزمن زمن تقاسم مغانم أو التأسيس لملاذات جديدة على حساب أمن شعوب المنطقة واستقرارها .
ومن الواضح أن العرب اليوم ، أو بعضهم على الأقل ، جزء من وليمة يتم التحضير لها ، في جو يعبق برائحة الدم، والمدعوون الى هذه الوليمة هم قادة “الدول الكواسر ” وكبار المتعهدين الأقليميين ، الذين ينشطون في تطويع المنطقة لأرادة الأمبراطوريات الجديدة والقديمة .
ما سر الهجمة الجديدة ؟
الجواب ببساطة هو موارد الطاقة في شرق المتوسط .انها الهاجس الأول في الحسابات الأقليمية والدولية وهي حسابات استراتيجية .
والدليل يمكن تلمسه أولا في لبنان ،الذي يشهد هجمة غير عادية من قبل الشركات الأميركية والبريطانية والفرنسية ،اضافة الى النروجية والأيطالية والبرازيلية والروسية والهندية والصينية ،من دون أن نغفل تركيا وايران والكويت والأمارات ،التي تطلب تأهيلها كشركات غير مشغلة ، على أن تتقاسم مع الشركات المشغلة استثمار الآبار الجديدة وتطويرها عندما يبدأ الحفر والأستخراج ….
52 شركة عرضت خدماتها حتى الآن وعملية استدراج العروض لا تزال في بداياتها ، واذا سارت الأمور كما يتوقع لها أن تسير ،فان لبنان سيتحول الى دولة نفطية في العام 2016 أو 2017 على أبعد تقدير .
ولبنان مجرد نموذج في المشهد النفطي الجديد على امتداد شرقي المتوسط ، وهو مشهد حافل منذ الآن ، بالنزاعات الحدودية ، والتهافت المحموم على مواقع النفوذ .
واالتنازع قائم على كل مستوى ، والاعبون الكبار ، بدءا بروسيا وايران والهند والصين ، يتبارون في تغيير المعادلات الجيو استرتيجية ، التي تتيح للبعض الحفاظ على خطوط امداد اوروبا بالغاز ، ومد خطوط جديدة تربط لبنان بسوريا وايران مرورا بالعراق ،الى جانب أنابيب أخرى تعبر باكستان الى الصين ،في الوقت التي تحاول القوى الغربية تغيير المسارات والتقاط ما تيسر من الفرص المتاحة في التنقيب والتسويق .
أين سوريا من هذه الورشة ؟
انها في قلب الصراع ، والمعركة على سوريا محورية في الحسابات الأستراتيجية القائمة ،والخبراء يؤكدون أن التلاقي التركي – الأسرائيلي الجديد ،بدعم من بعض الأطراف الأقليمية ، يهدف الى انتزاع سوريا من الأفق الروسي الأيراني والأنعطاف بها غربا . والمواجهة لا تقتصر على الموارد السورية الحالية وانما تتجاوزها الى امتداد الساحل السوري الشمالي الغربي .
وليس سرا أن تأجيج الصراع في وعلى سوريا يهدف في جملة ما يهدف اليه ، الى تدمير أقصى ما يمكن تدميره من البنى السورية القائمة ، فضلا عن تدمير القوة العسكرية الضاربة ، من اجل اتاحة اعادة تركيب البلد ، ومعه المنطقة ككل ، جغرافيا ونفطيا وسياسيا وأمنيا .
شهية الدول الكواسر كبيرة تعادل أهمية الأكتشافات النفطية الغازية الجديدة ، ورسامو الخرائط على أهبة الأستعداد لتنفيذ المهمة عندما ينجلي غبار المعركة .
ومشروع رسم الحدود البديلة لا يتوقف عند شواطئ المتوسط ، وانما يتعداه الى منتجي الغاز الأقليميين والدوليين ، القدامى والناشئين ، الذين يتنافسون مع الغاز الروسي على اقتسام الأسواق العالمية . والخريطة تمتد على امتداد ” الربيع العربي ” أو ما سمي زورا الربيع الديموقراطي ، والأدلة كثيرة .”الربيع المصري “، مثلا ، قضى على امكانية انشاء خط الغاز العربي ، الذي كان يفترض أن ينقل الغاز المصري الى الأردن واسرائيل ، ثم الى تركيا واوروبا … وسوريا المستقبل يراد لها أن تكون الوريث الشرعي لهذا الخط لأن طريق الغاز السوري الى الأسواق الأوروبية يمر بتحالفات استراتيجية مع الجارة الشمالية بعد انجاز معاهدة السلام مع اسرائيل .
في السياق اياه هناك من يفسر ” الحرب الباردة ” المفتوحة بين بغداد وأربيل . انها في نظر الخبراء جزء من الصراع الأقليمي والدولي على مصادر الطاقة ، والوصول الى المتوسط عبر سوريا جزء أساسي من التطلعات العراقية الجديدة . والأمر نفسه ينطبق على ايران التي طالما سعت الى خط أنابيب يوصل الغاز الأيراني الى اوروبا مرورا بالعراق وسوريا .
انها حروب الطاقة الجديدة لا معارك الربيع العربي ، والمعادلة أمنية – سياسية – اقتصادية – استراتيجية بالغة التعقيد . واللاعبون المحليون والدوليون يدركون هذه الحقيقة وفي هديها يتصرفون ، وأبرزهم حتى الآن روسيا التي تحاول تكريس حضورها في المتوسط في مواجهة أميركا التي تحاول بدورها تأهيل وكلائها الأقليميين وحلفائها الأوروبيين للمهمة نفسها .وكل كلام على” الأمن القومي ” في الأردن وسوريا وتركيا وايران مرادف لمشروع انشاء ” المناطق العازلة ” كي يسهل اقتسام الغنائم عندما تبدأ حسابات التصفية .
أما العرب – أو معظمهم على الأقل – فلن يشاركوا في الوليمة .انهم الطبق الأكبر في هذه الوليمة .