كل شيء يدل على أن سوريا دخلت الى غير رجعة زمن اللامعقول .
نحن في قلب الكارثة : مئة ألف قضوا ، من بينهم خمسة عشر ألف طفل وامرأة ، ثلاثة ملايين شردوا في الداخل وأكثر من مليونين في الخارج من بينهم مليون في لبنان وحده ، ومساحة الجوع والمرض واليأس الى اتساع .والثورة التي تحمل اسم “ثورة الشعب ” أدت حتى الآن الى تدمير ما يقارب ثلاثة ملاين منزل ومتجر ومؤسسة انتاجية ، أي الى تحويل ثلث سوريا تقريبا الى رماد .
ودخول الصراع عامه الثالث بدأ يتكشف عن معادلات جديدة ، على المستويين السياسي والأستراتيجي .روسيا التي خسرت معركة الأقناع السياسي قررت الذهاب الى نهايات الحسم العسكري ، وهي تخوض حربا مفتوحة بالوكالة ضد التحالف العربي – الغربي في المنطقة ، بعدما ثبت لديها أن المحاصصة الدولية ليست متاحة حتى الآن .
روسيا هذه متمسكة في الوقت نفسه بالحليف الأقليمي ايران ، التي تواصل التصعيد النووي في موازاة الحرب المفتوحة التي تخوضها في العمق السوري على كل الجبهات السياسية والميدانية والدبلوماسية والأعلامية وبكل الأسلحة المتاحة .
ومع احتدام القتال في قلب دمشق ( بعد تأجيل طال ) يتعاظم الخوف من تحول النزاع الى مواجهة بين مجموعة أطراف دولية ( على الطريقة الفيتنامية) من دون اتاحة المجال لمساحة زمنية هادئة لألتقاط الأنفاس .والقصد في النهاية محاصرة طهران ودمشق وحزب الله ، ودفع دول الخليج العربي الى صدارة المشروع السياسي في المنطقة ، ودعم تركيا كمشروع اسلامي حليف ، في سعي محموم لتحييد العراق أو تعطيل دوره الأقليمي وتغليب المشروع الاسلامي المتشدد على ما عداه في دول الربيع العربي من أجل ضمان تقدم مشروع شرذمة الكيانات السياسية القائمة .
الأشارات الأولى الى هذا التوجه تتمثل في اعلان باريس ولندن عن قرار بدعم المعارضة المسلحة – ولوبشروط – (تحديدا الجيش السوري الحر ) بالأسلحة اللازمة من أجل ضمان حد كاف من توازن القوى ،قبل بدء العملية التفاوضية مع النظام .والدعم الأميركي والعربي لهذا التوجه يمكن تلمسه في الخطط المعلنة لتكريس شرعية ما يسمى ” الأئتلاف الوطني ” المعارض عن طريق اسناد مقعد سوريا له في الجامعة العربية تمهيدا لأستضافته في الأمم المتحدة ، فضلا عن امداده مباشرة أو عبرأطراف ثالثة بالمساعدات المالية والأسلحة ، الى جانب السماح للأفراد والشركات والمصارف الأميركية بتحويل أموال الى المعارضة ، في الوقت الذي يلوح البنتاغون باستخدام طائرات بلا طيار في المواجهة ضد المتشددين .
خروج المعارضة السورية من لائحة العقوبات الأميركية ، وبدء تدريب مقاتليها على دفعات ، وانخراط بريطانيا وفرنسا في المواجهة ، خطوات يراد منها أن تقود في الأشهر المقبلة الى تسعير الحرب ، والعبور الى مرحلة انتقالية حقيقية . وكل هذا على حساب الدم السوري ، والدمار المتراكم في المدن والأرياف ، والتمزق الهائل في النسيج الأجتماعي ، والمعاناة الكبرى على المستوى الأنساني .
وفي تضاريس الكارثة سباق غير معلن بين مشروعين : مشروع ديموقراطي تعددي بعد انتهاء المرحلة الأنتقالية ، ومشروع ديني توتاليتاري جهادي تقوده الحركات المقاتلة المتطرفة ، من شأنه أن يجعل السوريين جميعا يترحمون على زمن الأمبراطورية العثمانية .
يعزز التخوف من تداعيات هذا السباق أن المشرق العربي كله مفلس سياسيا وسط غياب كامل لعوامل التوحيد وضياع الطريق الى مشروع عقلاني جماعي ، وهذا ما نتلمسه في المطبات التي تتعاقب في زمن المحاصصة والتمزق والسلطوية .
في الحسابات الأخرى غير المعلنة أن سقوط النظام السوري سوف يقود الى فوضى اقليمية شاملة تشعل عددا غير محدد من الحرائق الأقليمية تقود بدورها الى مزيد من الفوضى والمذابح فضلا عن الدمار . والمفارقة هنا ان الخوف من استيلاء الأسلاميين على السلطة لا يعادله الا الخوف من اطالة عمر الصراع القائم ، لأن هذه الأطالة تعزز مكاسب المتطرفين في المشهد السياسي الأقليمي .
ثم ان المعارضين السوريين يدركون جيدا أنهم عاجزون عن ادارة المرحلة المقبلة من دون مطبات واخفاقات ، وهم لا يشكلون قوة فاعلة ومؤثرة وقادرة على اعادة بناء المؤسسات الدستورية والأمنية والسياسية ، وقد فشلوا حتى الآن في تقديم أنفسهم كجهة مقبولة من أطراف المجتمع الدولي .
مرة أخرى نقول أن سوريا دخلت فعلا في زمن اللامعقول ، ومخاض التحول السياسي – متى بدأ – عملية موجعة وطويلة وشاقة ، لأن القوى التي سوف تحكم سوريا بعد ستة أشهر أو عام أو عامين ، ستكون مجرد سلطة وهمية تجلس فوق جبل من الركام وسط جحيم من المعاناة يصعب وصفه منذ الآن … تتناهشها قوى اقليمية ودولية بدءا بتركيا والسعودية وايران وليس انتهاء بفرنسا وبريطانيا والأتحاد الأوروبي وأميركا وروسيا بطبيعة الحال .وليس من يستطيع أن يضمن منذ الآن أن سوريا ما بعد الأسد ستكون أفضل من سوريا الأسد ، للعقود المقبلة على الأقل ، وأنها لن تدخل في صراع مفتوح مع الدول المجاورة ومع نفسها في الداخل .
انه اللامعقول في الزمن السوري البالغ التعقيد بعدما خرجت سوريا خروجا كاملا من قبضة ابنائها موالين ومعارضين ، واستقرت بين أنياب الدول الكواسر في لعبة تقاسم مواقع النفوذ ، في المديين الأقليمي والدولي .