ليست سهلة مرحلة – بل مراحل – ما بعد الثورة لأنها مفتوحة على سلسلة من الأزمات المتلاحقة ، ولأن الأوجاع فيها أكثر من المكاسب في معظم الحالات
وسقوط الأنظمة (في العالم العربي وأوروبا الشرقية وآسيا ) لا يختصر الثورة . أنه مجرد انجاز أولي يفترض أن يقود الى ارساء المؤسسات الديمقراطية الجديدة ووضع استراتيجيات بديلة على المستويين الأقتصادي والأجتماعي
وما تشهده تونس ومصر اليوم ، بالأضافة الى الصراعات المفتوحة في ليبيا واليمن ، والجروح المفتوحة في سوريا ، كلها تحمل الدليل على أن العالم العربي ككل يعيش حالة من الأرباك والخوف . الحكام خائفون من شعوبهم ، والأغنياء خائفون من الفقراء ، والطبقة الوسطى من المعدمين ، فيما السلطوية بكل أشكالها الدينية والعسكرية والأيديولوجية سيدة الموقف
والقصة ليست جديدة ، فقد عرفتها فرنسا 1789 كما عرفتها الثورات الملونة في اوروبا الشرقية ، فضلا عن اندونيسيا وايران . وقد دلت التجربة تلو الأخرى على أن المطلوب ادارة المرحلة الأنتقالية الصعبة بالكثيرمن الحكمة والحنكة والتأني، لأنها مرحلة عبور الى التنظيم الذي يضمن الأستقرار الجديد وتحديد شكل الدولة وآليات الحكم وتداول السلطة بعد التغيير . وليس سرا أن العملية الأنتقالية خطيرة في عمر الثورة كما في عمر الدولة ، لأنها تفتقر الى الوضوح وتفسح المجال أمام تدخل قوى خارجية في بناء المؤسسات الجديدة
وقد دلت التجربة على أن المؤسسات الجديدة غالبا ما تكون هشة وغير مستقرة في بداياتها ما يسهل على القوى الخارجية فرض رؤاها على القوى الثورية الناشئة . هذا ما حدث في العامين الأخيرين من عمر ما سمي ” الربيع العربي ” في شمال افريقيا كما في اليمن وسوريا حيث الصدامات مفتوحة بين التيارات السياسية الأسلامية من جهة والتيارات الليبرالية من جهة أخرى
أنه الصراع على الحيز الأجتماعي أولا بين شرائح ترى في الثورة مصلحة عليا ، والزعامات التقليدية التي ترى في الثورة تهديدا لمصالحها
وهو في الوقت نفسه صراع على الفضاء المكاني بين أهل المدن وأهل الأرياف، يخرج فيه العنف أحيانا عن مألوفه اليومي في مواجهة ترمي الى تقاسم مواقع النفوذ والسيطرة على الموارد العامة
وهو بكل تأكيد صراع على الحيز السياسي داخل الفضاء الأجتماعي عبر وسائل الأتصال الحديثة والصحف والقنوات الفضائية في تنافس مكشوف بين الأحزاب والقوى السياسية والأئتلافات الثورية الجديدة
كل هذه الصراعات بأشكالها الثقافية والأيديولوجية والمصلحية ، الداخلية والأقليمية والدولية ،تخلق حالة ارتباك ولاتوازن في المشهد السياسي الجديد الذي لم تكتمل عناصر تكونه ، ما يقود الى الفوضى في معظم الحالات
نعود الى فرنسا . في مراجعة باردة لمراحل الثورة الفرنسية ،توقفت ” فورين أفيرز “مؤخرا عند ” التحولات السياسية ” في النموذج الفرنسي كمثال تاريخي عن أوجاع ما بعد الثورة
نقرأ في الدراسة : في العام 1791، مع إعلان النظام الملكي الدستوري، بدأت فرنسا محاولتها الأولى لإنشاء نظام سياسي جديد، ولكن تم رفض هذا النظام السياسي المعتدل من قبل كل الرجعيين والمتطرفين. وهذا الأخير سرعان ما اكتسب النفوذ والتأثير، وفي عام 1793، أعدموا الملك وأعلنوا الجمهورية بالاقتراع العام والتزام مجموعة واسعة من الحقوق المدنية والسياسية.
ثم انحدرت أول ديمقراطية في أوروبا الحديثة بسرعة إلى ما أصبح يعرف بعهد الإرهاب، الذي أعدم فيه من 20 ألف إلى 40 ألف شخص بسبب أنشطة “معادية للثورة”.
نقرأ أيضا : إذا كانت التجربة الديمقراطية الأولى في فرنسا قد فشلت، فإنها أسهمت، مع ذلك، وبشكل عميق، في استكمال التحول، في النهاية، نحو ديمقراطية ليبرالية مستقرة. اقتصاديا، استبدلت الثورة نظام الرعاية على أساس التسلسل الهرمي شبه الإقطاعي بنظام السوق على أساس الملكية الخاصة والمساواة أمام القانون. اجتماعيا، استبدلت الثورة المجتمع المبني على مختلف الجماعات الوظيفية وراثيا (النبلاء والفلاحون، وهكذا دواليك) بأمة مؤلفة من المواطنين متساوون أمام القانون.
سياسيا، تم تغيير السلوك الشعبي في اتجاه المواطنة والحقوق والسلطة الشرعية ، وتسارعت بشكل كبير عملية تحديث الدولة، لتحل محل سيل من الترتيبات المحلية والإقطاعيات والبيروقراطية والنظام الضريبي.
وباختصار، فإن الثورة وما بعدها، أظهرت الخطوات الحاسمة الأولى في الصراع الطويل على امتداد قرن ونصف للتخلص من النظام القديم وتأسيس شيء أفضل وأكثر ديمقراطية كبديل فعلي .
لماذا كل هذا الكلام ؟
ببساطة لأن متاعب الديموقراطيات الناشئة ( العراق ضمنا )أكثر من كثيرة ،اذ ان المرحلة الأنتقالية مشحونة بالشكوك وانعدام الثقة والأحباط في حالات كثيرة .لكن التاريخ يؤكد أن المجتمعات النامية لا تستطيع حل مشاكلها ما لم تواجهها بشكل شجاع ومباشر ، كما أن اسقاط نظام دكتاتوري ليس نهاية وانما مجرد بداية في ورشة اعادة بناء طويلة
.والمساحة العربية الممتدة ما بين موريتانيا وايران لا تشكل استثناء في زمن التحولات الكبرى