«أوباما الثاني» و«نتنياهو الثالث» شكلا الحدث السياسي الأهم في الأسبوع الأخير.
ومن الواضح أن الرجلين، كل من موقعه، وفيان لنفسيهما: أوباما الليبرالي اليساري الملتزم في زمن العولمة الذي يدافع عن القيم الأميركية كما يراها، وكما رآها قبله ابراهام لينكولن ومارتن لوثر كينغ. ونتنياهو حفيد الحاخام وابن المؤرخ الصهيوني القريب من مدرسة المحافظين الأميركيين، الذي يعارض الانسحاب من الضفة وتقسيم القدس، كما يعارض قيام أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية.
ورغم أن الحديث عن الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الاسرائيلي، ينطوي على مجموعة من التناقضات، فإن ما يجمعهما هو التشبث الأميركي بأمن اسرائيل وتفوقها العسكري، ومرونة أوباما نفسه في التعامل مع الطرح الاسرائيلي حول يهودية الدولة.
في أي حال، المناسبة تستوقف الكثيرين من المراقبين، أولاً لأن نتنياهو هو رئيس الوزراء الاسرائيلي الأول (بعد بن غوريون) الذي أمضى على رأس السلطة زمناً قياسياً هو 2434 يوماً. وثانياً لأن أوباما هو أول أميركي من أصل افريقي، يتطوع لمهمة تاريخية هي «القتال السياسي» من أجل أفكاره «بعد عقد من الحروب شارف على نهايته». وفي خطاب القسم الثاني تعهد صراحة بما لم يتعهد به أي من أسلافه: «سندعم الديمقراطية من آسيا الى افريقيا، من الأميركتين الى الشرق الأوسط، نيابة عن اولئك الذين يتوقون الى الحرية… وسنحل سلمياً خلافاتنا مع الدول الأخرى».
بيت القصيد هنا. لقد أبلغ اوباما العالم كله- اسرائيل ضمناً- أن واشنطن لن تنفرد في عهده، وولايته الثانية تحديداً، بقيادة أي حرب خارجية. هذا الالتزام تاريخي لا يشبه التزام أي رئيس أميركي آخر. الرجل يرى أن قوة أميركا في سياساتها السلمية، وفي تحالفاتها، وفي تفوقها الحضاري، ويراهن على هذه المسلمات.
إنه رئيس من معدن آخر، يقدم قيم التسامح والعدالة والكرامة الانسانية على العنف السياسي، لأن السلام يتطلب الالتزام بهذه القيم و«لأن حريتنا الفردية مرتبطة ارتباطاً» لا ينفصم بحرية كل نفس على سطح الأرض».
هذا الطرح أبعد ما يكون عن الطروحات العنصرية التي طبعت ولايتي جورج بوش الابن وهو القائل إن الولايات المتحدة هي «الخير» واخصامها هم «الشر» ولا بد من «حروب وقائية» لتغليب الخير على الشر.
نعود الى نتنياهو.
ليس سراً أن الود الشخصي كان مفقوداً بين الرئيس الأميركي العائد ورئيس الوزراء الاسرائيلي العائد في السنوات الأخيرة، في ما يتعلق تحديداً بعملية السلام في الشرق الأوسط، والنشاط الاسرائيلي الاستيطاني. وقد ذهب نتنياهو الى نوع من الشطط، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ قال: كثيرون يرغبون في أن أترشح لهذه الانتخابات، لكنني لن أفعل! بعدها وضع نتنياهو ثقله (أو ثقل اللوبي الاسرائيلي) في كفة ميت رومني الى حد قيل فيه ان رئيس الوزراء الاسرائيلي هو «الخاسر الثاني» في المعركة.
خطاب القسم الثاني الذي ألقاه أوباما بعد تنصيبه قبل أيام، يعيد طرح مجموعة من التساؤلات الكبيرة حول سياسات أوباما وسياسات نتنياهو، في الشرق الأوسط وفي المدى الفلسفي الأوسع.
في رأس هذه السياسات آليات التعاطي مع الملف النووي الايراني، في غمرة تقارير تؤكد أن القنبلة الايرانية على وشك الولادة. الملف الثاني هو الملف السوري الذي يمس الأمن الاسرائيلي بقدر ما يمس أمن المنطقة. الملف الثالث هو التداعيات التي أحدثتها زلازل «الربيع العربي» الذي لم يهتد حتى الآن الى خيارات سياسية واجتماعية وأمنية واضحة. الملف الرابع هو ملف الارهاب الديني المتعدد الجنسيات الذي لا يزال يتوالد رغم النكسات التي أصابته في افغانستان والعراق، وما يجري في مالي نموذج صارخ عن حجم هذا التوالد.
أما الملف الأساس، أو جوهر المشكلة، فانه يبقى مدى قدرة أوباما الثاني (بعد فشل أوباما الأول) على تقديم مبادرات شجاعة تعيد وصل ما انقطع بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والاسلامي، وتؤسس لعهد جديد بين الغرب والاسلام، بمعزل عن الممارسات العنفية التي تنسب الى هذا الاسلام.
القضية الفسطينية هنا هي المنطلق، ومشروع الدولتين خطوة اولى، وتحديد صفة «الدولة اليهودية» هو البداية، لأن هذه الصفة يفترض ألا تسمح في المستقبل القريب أو البعيد بترحيل مليون وربع مليون فلسطيني يعيشون في اسرائيل منذ العام 1948.
بكلام آخر، إن نظرة اوباما الى العلاقات الأميركية مع الشرق الأوسط، لا تتقاطع من قريب أو بعيد مع نظرة نتنياهو رجل «الحتمية البيولوجية» و«التمييز العنصري» و«جدران الفصل» الاسمنتية. وأهمية هذا الاختلاف في أنه يأتي من خارج المألوف القائل بأن الولايات المتحدة، تاريخياً، من رواد التمييز العنصري.
ومعروف أن نتنياهو هو أحد تلامذة جابوتنسكي، ملهم الليكود منذ العام 1903، وهو القائل «كل انسان آخر على خطأ وأنت وحدك على صواب. لا تحاول أن تجد أعذاراً من أجل ذلك فهي غير ضرورية». وهو القائل أيضاً «اذا كنت تعتقد أن شخصاً يريد أن يقتلك فعليك أن تقتله، ولا تبحث عن أعذار أو مبررات فهي غير ضرورية».
بهذا المعنى يكتسب «الجدار العازل» أو «الجدران العازلة» التي تبنيها اسرائيل أبعاداً فلسفية عقائدية قبل أن تكون أبعاداً فولاذية أو اسمنتية.
كنا نقول إن ما بين أوباما ونتنياهو، منذ الولاية الأولى، ليس سمناً وعسلاً، وأن الولاية الثانية تطل عاصفة في أكثر من جانب دبلوماسي وسياسي وأمني يتصل بأمن اسرائيل ونظرة أوباما الى هذا الأمن والى المستقبل الاسرائيلي نفسه.
فهل يكشف «أوباما الثاني» عن وجه أوباما الحقيقي؟