أفغانستان الفرنسية

فعلها… فرانسوا هولاند. عوضاً عن أن يقاتل «الذئاب المنفردة» في الداخل الفرنسي، كما فعل نيكولا ساركوزي قبل معركة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، قرر أن يذهب مباشرة الى  غرب افريقيا «القاعدة» الافريقية هناك. والقصة في النهاية قصة مواجهة بين «الجمهورية الخامسة»، كما أرساها الجنرال ديغول، والارهابيين الجدد، وهم شريحة من الأفارقة العرب والمسلمين، ينتمون الى الجيل الثاني بعد استقلال الجزائر. هؤلاء (في تقدير أجهزة الاستخبارات) قدموا في البداية من المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان، وتوصلوا الى انشاء خلايا محلية، في فرنسا كما في عدد من البلدان الأوروبية التي ما انفكت منذ سنوات ترصد نشاطاتهم. وفرنسا التي لم تشهد أي عمل ارهابي كبير منذ العام 1996، خلافاً لـ11 /9 /2001 في الولايات المتحدة، وتفجيرات مدريد 2004، وتفجيرات لندن 2007… فرنسا العلمانية التي تستضيف كل الأفكار وكل الأديان وكل الايديولوجيات وكل الأعراق، وجدت نفسها فجأة في مرمى السلفيين المتشددين الذين اخترقوا بعض الأوساط المغاربية المسلمة، في الجنوب بصورة خاصة. محمد مراح، منفذ عملية تولوز في آذار 2012، شكل التعبير الأكثر دلالة عن هذا الاختراق، علماً أنه ولد في فرنسا ويحمل الجنسية الفرنسية. إنه واحد من «الذئاب المنفردة» أي الشباب الأوروبيين الذين قصدوا المناطق القبلية على الحدود الباكستانية- الأفغانية، وتحولوا الى «مجاهدين» ثم الى مجرمين حقيقيين. هؤلاء «الذئاب» الفرنسيون تقدر الشرطة عددهم بـ15 ألفاً، وهم ينشطون في الضواحي الفقيرة التي تعتبر هشة اجتماعياً، وهي ضواح شهدت (يوم كان ساركوزي وزيراً للداخلية) أعمال عنف تواصلت على مدى ثلاثة أسابيع قبل سبع سنوات. والمفارقة أن هؤلاء «المجاهدين» الذين يمارسون قيم التشدد الديني يمضون ليالي صاخبة مع النساء، ويتنافسون على سرقة السيارات وجني الأموال من بيع المخدرات. إنهم مهمشون يبحثون عن مغامرة، أقرب الى الجنود التائهين، وفي الوقت نفسه مقاتلون حقيقيون جاهزون لتنفيذ أي مهمة يطلب منهم تنفيذها، على طريقة «الخلايا النائمة». هذه الشريحة من «المجاهدين» هي التي نفذت منذ العام 2001، عمليات مدريد وفرانكفورت وساحة «تايمز سكوير» في نيويورك، وآخر انجازاتها عملية تولوز على يد محمد مراح ذي الأصول الجزائرية. إنهم «جيش بن لادن الأوروبي» ومن الصعب احصاء الذين انخرطوا في صفوفه. لكن الفرنسيين يقولون ان 40 في المئة من نزلاء سجونهم هم من المسلمين، رغم أن عدد المسلمين في فرنسا لا يتجاوز الـ8 في المئة من عدد السكان الاجمالي. مقتل أسامة بن لادن أدى الى تغيير في قواعد اللعبة، وعملية تولوز أعادت فتح «ملف الاندماج» الاسلامي في المجتمع الفرنسي، رغم أن الأكثرية الساحقة من المسلمين المقيمين تحمل الجنسية الفرنسية وتعتبر نفسها جزءاً عضوياً من التركيبة المجتمعية الفرنسية. اليوم تقصد القوات الفرنسية مالي بقرار أمني ستراتيجي لثلاثة أغراض على الأقل: الدفاع عن مصالح فرنسا الاقتصادية في مالي والدول المجاورة، وبصورة خاصة مناجم الذهب والحديد والبوكسيت واليورانيوم. الثاني توجيه ضربة وقائية رادعة لـ«أيتام بن لادن» في الداخل الفرنسي. والثالث تعزيز شعبية فرانسوا هولاند المتدهورة منذ تسلم مسؤولياته في قصر الاليزيه. كل هذا في ظل شعارات فضفاضة من نوع «الحفاظ على وحدة مالي، وقف الهجمات الارهابية، والتحضير لنشر القوات الافريقية». واذا كانت لكل العمليات العسكرية أغراض اقتصادية، فإنه من الواضح أن فرنسا الاشتراكية تدخل مالي للحفاظ على آخر معاقلها في القارة السوداء، وبصورة خاصة في النيجر الجارة حيث تنشط شركة «أريفا» الفرنسية في استخراج اليورانيوم. يبقى سؤال: هل تستطيع الجماعات الاسلامية في مالي وجوارها استدراج الجيش الفرنسي الى حرب عصابات طويلة النفس، كما فعل الفيتناميون مع الولايات المتحدة، و«المجاهدون» مع الجنود السوفيات في افغانستان؟ الجواب عن هذا السؤال سابق لأوانه، وكل شيء مرهون بقدرة قوات النخبة الفرنسية على تنفيذ المهمة التي كلفت بها، والانسحاب في «الوقت المناسب». للجزائر هنا دور، وللمجموعة الأوروبية دور آخر، وحسابات الربح والخسارة لم يحن موعدها بعد. في أي حال، طالت المواجهة أم قصرت، إنها افغانستان الفرنسية.


Posted

in

by