الشتاء السوري أكثر من عواصف وأعاصير تجتاح تركيا والأردن والعراق ولبنان، وأكثر من صحارى بؤس وجوع وتشرد.
إنه أكثر من مواجهة ميدانية في الجو وعلى الأرض، وأكثر من حرب همجية حصدت حتى الآن عشرات الآلاف من السوريين على امتداد سوريا.
الشتاء السوري أكثر من برك مياه مجبولة بالدم، وأكثر من قرى مدمرة ومدن تحولت بكاملها الى أشلاء ممزقة.
إنه أكثر من نازحين بمئات الآلاف، هنا وهناك وهنالك، وأكثر من فجوات تتعمق بين أبناء الشعب الواحد، وأحقاد تتجذر وكوابيس تكبر وأوهام بالنصر تتنامى في معسكر النظام كما في معسكر معارضيه.
الشتاء السوري منعطف جهنمي بدأ مسيرات سلمية تطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية، وتحوّل بعد 22 شهراً من الفوضى، من حيث يدري النظام ومعارضوه أو لا يدرون، الى مشروع للعودة بسوريا الى دويلات طائفية مناطقية، والى حالة تشبه مرحلة ما قبل اتفاقيتي سايكس بيكو وسان ريمو اللتين أقرتا الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان في العام 1922.
دولة دمشق، دولة حلب، دولة العلويين، دولة جبل الدروز، ولواء الاسكندرون المستقل (الذي تم ضمه الى تركيا)، عناوين تلوح في الأفق، وتطويل عمر المواجهة في الداخل السوري، بالاضافة الى تعميق المحنة وتيئيس السوريين من الحل السياسي، مفردات تصب في خدمة المشروع التفتيتي، ليس على مستوى سوريا وحدها وانما على مستوى المنطقة.
والسؤال لم يعد مَن يحاور مَن، وهل يبقى بشار الأسد في السلطة أم لا.
السؤال اليوم: هل تبقى سوريا دولة أم لا؟ وهل تقرر فعلاً انشاء دويلات جديدة في المنطقة، واعادة رسم الحدود الاستعمارية، فتنقسم الكيانات القائمة وتتبدل الأسماء، وتندمج الدويلات الجديدة في تحالفات متشابهة عرقياً ودينياً واتنياً ومذهبياً؟
السؤال هو: هل تولد دولة علوية- شيعية على امتداد الشاطئ، ودولة سنية في منطقة حلب، ودولة سنية أخرى في منطقة دمشق، ودولة للدروز في الجولان ولبنان تشمل جزءاً من الأراضي الجنوبية السورية وشرق الأردن؟
الخطط الموضوعة منذ ثمانينيات القرن الفائت لاعادة تقسيم المنطقة الى كيانات عرقية وطائفية، من أجل تمكين اسرائيل من أن تواصل قيادة المنطقة، عادت تطل برأسها في العراق وسوريا والأردن، فضلاً عن مصر وليبيا والسودان امتداداً الى المجموعة الخليجية أو بعض أطراف الجزيرة على الأقل.
والاسلام الراديكالي جزء من المخطط بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
واسرائيل التي ضمنت حدودها مع سوريا الأسدية لأكثر من أربعة عقود، هي المستفيد الأول مما جرى ويجري،وهي سعيدة ولا شك بتدمير المدن والبنى التحتية، وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري، فضلاً عن تآكل القوة العسكرية السورية. وأي نظام بديل في سوريا لن يكون (في المدى القريب على الأقل) قادراً على المطالبة باستعادة الجولان، أو أي شبر من الجولان، لأنه سوف يكون منشغلاً لعقد من الزمن وربما لعقدين، بالحروب الداخلية من جهة، وباعادة التعمير من جهة أخرى، علماً أن التقديرات الأولى لمشروع إعادة البناء تصل الى مئتي مليار دولار، هذا إذا توقف القتال.
في ظل هذه المعطيات كل «انتصار» تحققه المعارضة السورية وحلفاؤها مرادف للهزيمة وكل «انتصار» يحققه النظام وحلفاؤه مرادف للكارثة. وحرص النظام على تدمير المدن والأرياف السنية بصورة خاصة جزء من المشروع التفتيتي الذي قد يقود مع الوقت الى كيانين سني وعلوي، ثم الى مجموعة كيانات (من يدري؟) في رأسها قيام تحالف علوي- شيعي- ايراني على امتداد المنطقة.
وليس سراً أن العراق، كما لبنان والأردن، لن يسلم ولن يسلما من تداعيات المخطط السوري التقسيمي، وملامح هذه التداعيات بدأت في الظهور في محافظات العراق السنية والكردية، وفي شوارع المملكة الأردنية الهاشمية، وداخل المشهد السياسي اللبناني المشدود الى كل أنواع العصبيات المذهبية والطائفية.
الشتاء السوري باب مشرع على كل الاحتمالات الدراماتيكية، والمبضع الذي رسم في عشرينيات القرن الفائت حدود ما بعد الامبراطورية العثمانية، لا يزال صالحاً للاستعمال.
واستراتيجية القوى الكبرى تندرج في ثلاث محطات: تبطيء الحل حتى التيئيس، اجتراح التسويات التقسيمية، واغراق المنطقة ككل في حروب أهلية مفتوحة.
إنه الكابوس التاريخي في عاصفة الدم السورية.