23 حزيران (يونيو) الفائت شكل منعطفاً خطيراً في منحى العلاقات (المتدهورة أصلاً) بين سوريا وتركيا. في هذا التاريخ اسقطت وسائل الدفاع السورية طائرة مقاتلة تركية، الأمر الذي استدعى مجموعة تساؤلات حول حدود الدور التركي في ظل المعطيات المحلية والاقليمية والدولية.
وفي معرض البحث عن أجوبة جيو- استراتيجية، في حمى التجاذبات المتسارعة، تركزت القراءات على ما سمي بـ«الهواجس» التركية التي تعوق التدخل العسكري المباشر. وأبرز هذه الهواجس فاتورة المواجهة، القضية الكردية، موقع تركيا الاردوغانية في العالم العربي، وموقف واشنطن الحقيقي من مستقبل سوريا. لكن أحدا لم يتناول في العمق انعكاسات التدخل التركي المباشر على استقرار تركيا الداخلي.
بعد ستة أشهر على حادث الطائرة والمناوشات التي عقبتها، والمنحى المذهبي الذي تتجه اليه المواجهة في الداخل السوري، تستيقظ هذه الاسئلة بصيغة اكثر وضوحاً، وفي رأس الاهتمامات العلاقة الجدلية التاريخية بين البنية المذهبية لأبناء الطائفة العلوية في تركيا ووضعهم السياسي في الدولة التركية.
في هذا السياق يمكن التأكيد على أن تركيا المحاطة ببلدان شيعية، تبرز كقوة اقليمية مرحب بها في مصر ودول الخليج التي تتطلع الى مواجهة النفوذ الايراني، لكنها تحرص في الوقت نفسه على تجنب المعادلة القائلة بأنها متحالفة مع السنة في الصراعات الطائفية، وهي تمتنع عن الظهور بمظهر دولة سنية عبر التأكيد على علمانيتها وحيادها وسعيها الى الانخراط في الاتحاد الأوروبي.
والدساتير التركية التي نظمت الحياة السياسية في البلاد منذ العام 1923، لا تعترف بالهوية السياسية للمواطنين الأتراك إلا على أساس المواطنة. الأتراك كمواطنين ينتمون الى القومية التركية، وهذا المفهوم ينطبق على نواحي الحياة العامة كافة في الدولة التركية الحديثة، وبصورة خاصة على مستوى التربية، القضاء، الجيش، الاقتصاد، الاعلام، والثقافة.
هذه الحقيقة لا تحول دون حقيقة أخرى اجتماعية يمكن تلمسها في الأوساط السياسية والثقافية احياناً، وبالتحديد في الأوساط «الأقلياتية» التي تقول إن الطبقة التي تحكم تركيا اليوم هي امتداد تاريخي للطبقة التي سبق أن قادت الدولة العثمانية. وهذا يعني أن الحداثة السياسية التركية (التي بدأت منذ سبعة عقود تقريباً) لم تسمح لأحد من خارج السنة الأتراك الحنفيين بالوصول الى أحد المراكز السياسية الحساسة في البلاد، كرئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء أو رئاسة الأركان، أو حتى رئاسة المحكمة الدستورية، رغم أن عدد المواطنين الأتراك، من خارج الطبقة الحاكمة، يقارب نصف سكان البلاد.
في هذا السياق نتوقف، ولو بسرعة، عند العلويين الذين يبلغ تعدادهم عشرين مليوناً من أصل سبعين مليون تركي، ما يعني أنهم يزيدون عن ربع السكان. هؤلاء العشرون مليوناً ثلاث فئات: فئة تعيش في المناطق القريبة من الحدود السورية، وبصورة خاصة في منطقة لواء اسكندرون، وهي تشكل امتداداً ديمغرافياً للعلويين السوريين. فئة ثانية تسمى «علوية الأناضول» وهي تختلف عن العلويين العرب بانتمائها الواضح الى القومية التركية. أما الفئة الثالثة فهي تضم علوية المناطق الجبلية الجنوبية الشرقية، وهم في معظمهم أكراد وأقرب في مفاهيمهم الى العلويين الأتراك.
لكن المجموعات الثلاث يغلب عليها، الى جانب الشعور القومي التركي، شعور آخر هو أنها تتعرض لاضطهاد سياسي بشكل مادي أو رمزي، الأمر الذي يطرح مجموعة تساؤلات حول حقيقة المساواة بين المواطنين في الدولة التركية الحديثة.
بكلام آخر، ان العلويين الموزعين بين اسطنبول (33 في المئة) وشرقي الأناضول (24 في المئة) والمتوسط (15 في المئة) وبحر ايجه (7 في المئة)، كما اولئك المنتشرين في جنوب شرق الأناضول والبحر الأسود، يشعرون بأنهم مهمشون سياسياً، على مستوى المناصب السياسية والأمنية. الدليل على ذلك أن حزب العدالة والتنمية الذي يحكم بصورة مطلقة منذ عشر سنوات تقريباً لا تضم كتلته البرلمانية إلا برلمانياً علويا واحداً من أصل ما يزيد عن 300 برلماني.
ومنذ عهد السلطان سليم الأول (عندما سيطرت الدولة العثمانية على المناطق العلوية) والعلويون يعيشون حالة انفصام عن الدولة التركية، هي أقرب الى العزلة وقد كانوا (إلى جانب الأرمن) هدفاً للقمع السياسي والعنف اعتباراً من العام 1915.
الحكومات الأتاتوركية المتعاقبة لم تعمل على تحسين أوضاع العلويين الأتراك بل أسهمت في تهجيرهم، وانقلاب 1980 الذي أدى الى تصفية اليسار التركي، قضى على التعبير السياسي لأتباع المذهب العلوي عندما حظر الانقلابيون الاحزاب السياسية مجتمعة وفرضوا حالة الطوارئ حتى العام 1985 واعتقلوا عشرات الآلاف وفي رأسهم القيادات العلوية.
نعود الى السؤال: هل إن خشية النظام التركي الحالي من التململ العلوي (الى جانب خشيته الدائمة من الحراك الكردي) هي التي فرملت التدخل العسكري المباشر في سوريا؟
تشابك الخيوط الاقليمية والدولية في الملف السوري البالغ التعقيد، لا يسمح حتى الآن بالقراءة العقلانية الباردة في حقيقة ما جرى ويجري، لكن المحللين العارفين لا يستبعدون هذا الاحتمال.