الحقيقة المنسية

الانتخابات الفرنسية الأخيرة كشفت عن حقيقة لم تستوقف الكثيرين من الاعلاميين والسياسيين، رغم أنها ذات دلالات عميقة على مستوى الممارسة الديمقراطية. والحقيقة، باختصار، هي أن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أوصى على 300 استطلاع رأي في الفترة الواقعة بين 2007 (تاريخ انتخابه) و2012 (تاريخ خروجه)، من بينها 66 استطلاعاً بين مطلع 2010 و30 نيسان (ابريل) 2012، أي العامين اللذين سبقا موعد الانتخابات الرئاسية. كلفة هذه الاستطلاعات بلغت 9.4 ملايين يورو (ما يقارب 12 مليون دولار) وهي تطرح مجموعة تساؤلات حول الجهات الممولة. والمسألة ليست هنا. المسألة هي أن ساركوزي كان بالغ الحرص على جسّ نبض الشارع الفرنسي بصورة أسبوعية تقريباً، وكان يبني مواقفه وخططه ويدير معركته السياسية استناداً الى الأرقام التي تطلع بها الاستطلاعات، لأنه كان يراهن على تبدّل في المزاج الشعبي الفرنسي، بقدر ما كان يراهن على ضبط وتصحيح سلوكه السياسي. وليس سراً أن توجهات الجمهور أساس في بناء الديمقراطية وعمليات الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأن غياب الرأي العام (عبر غياب الاستطلاعات والدراسات) يحرم العملية الديمقراطية من الزخم الذي يحتضنها، ويوفر فرصاً واسعة لادعاءات سياسية حول تمثيل الجماهير، بعيدة عن الحقيقة في حالات كثيرة. نطرح بالمناسبة سؤالاً: لماذا تغيب استطلاعات الرأي عن القرار السياسي في العالم العربي؟ الجواب مجموعة أجوبة يمكن حصرها في مجموعة عناوين: – ان التعامل مع نبض الشارع الذي تمثل قياسات الرأي العام أحد مجالات التعرف اليه، عملية خطرة على الحكام العرب، أو معظمهم، لأن الفجوة الفكرية والسياسية بين الحكام والجماهير واسعة جداً. – إن المشاكل الكبرى التي يعاني منها المواطنون بعيدة جداً عن الادراك الحكومي الدقيق، والكشف عنها مرادف لحظر استراتيجي على الحكم وعلى النظام أيضاً. – إن معظم الأنظمة العربية تعيش حالة تمزق وطني نتيجة فقدان الثقة بالحكومة والحكام، وانسداد الأفق السياسي في غياب تداول السلطة. – إن الجمهور العربي، بصورة عامة، لا يثق بأن حكامه جديون في الاصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، والمثل القائل بأن «الحكام العرب لا يستقيلون أبداً ونادراً ما يموتون» يعبر خير تعبير عن هذا الواقع. – إن استطلاعات الرأي تشكل تحدياً كبيراً في المجتمعات العربية، لأنها تعبر عن تفاعل ديمقراطي بين الناس والنخب الحاكمة، وتفتح الأبواب أمام التغيير والشفافية ومحاربة الفساد الاداري والمالي، وتضع الأسس لبناء سياسات متوازنة على المستوى الانمائي… وكل هذه الطموحات غريبة عن الطبيعة التسلطية التي تمارسها معظم الأنظمة العربية. كل هذا لا يمنعنا من الدعوة الى تحقيق قفزة طموحة في صناعة القرار العربي عن طريق ادخال ثقافة استطلاعات الرأي الى الحياة السياسية العربية. والعملية تبدأ بتطوير عمليات الاستطلاع في حد ذاتها، وتوفير المزيد من الحريات العامة، ووقف التدخل الرسمي في برامج الاستطلاع وآلياتها لضمان دقتها ونزاهتها ومصداقيتها. ولعل المطلوب في زمن «الربيع العربي» (أو ما يسمى كذلك) البحث عن آليات عربية نزيهة لتمويل هذه الاستطلاعات، بعيداً عن الانحرافات التي تواكبها في الوقت الراهن. وعندما نتوصل الى بناء مراكز دراسات متخصصة نزيهة، والى استطلاعات رأي موثوقة، نكون قد دخلنا فعلاً مرحلة النضج السياسي الذي يتيح للحكام والجماهير في آن الاحاطة بحقائق المجتمع والمحيط الاقليمي والدولي وتحولاتها. أما الانحراف في المعايير فنوع آخر من التسلط والدكتاتورية المقنعة.


Posted

in

by