سؤال

زميل أحترمه طرح السؤال في بحث قصير. السؤال هو: هل اقترب لبنان من خسارة أثمن وأعرق ثرواته الوطنية، أعني تفوقه الاعلامي، الذي حوّله لعقدين من الزمن، الى القائد الفكري الكبير للمنطقة العربية؟
الظن الأرجح أن لبنان خسر هذا الموقع لجملة اسباب لا مجال لتفصيلها في هذه الصفحة، نتوقف منها عند بعض العناوين:
العنوان الأول هو ارتهان الاعلام اللبناني للتمويل الخارجي. يكفي أن تخفض جهة خارجية تمويلها لهذه الصحيفة أو تلك، ولهذه المجلة أو تلك حتى تقرر الادارة خفض عدد الصفحات وخفض عدد العاملين وخفض النفقات الثابتة… وصولا الى خفض المستوى المهني والأداء النوعي.
العنوان الثاني هو تكنولوجيا المعلومات. المسألة هنا لا تعني لبنان وحده وإنما تعني الصحافة المكتوبة في مختلف انحاء العالم، بفارق بسيط هو أن الصحف المطبوعة في معظم البلدان المتقدمة وجدت حلاً أو حلولاً لمشكلة تراجع المردود الاعلاني والمبيعات. الحل الأول يتمثل في الاستعانة بالانترنت وتحويله الى عامل مساعد في التحرير والاستقصاء، والحل الثاني في اللجوء الى خدمات “اللوحات الرقمية” في الترويج للصحيفة مقابل رسم يدفعه القراء. قراءة الصحف على هذه “اللوحات” لها مردود مادي يعوّض جزئياً الهبوط النسبي في المبيعات.
في لبنان هبط المستوى، وتقلصت المساحات الاعلانية، ودخلت معظم الصحف (ودور النشر) غرفة العناية الفائقة، ولا حلول في الأفق. أما الحكومة فإن الصحافة آخر ما يعنيها حتى الآن، في غياب العمل النقابي الفاعل وعلى كل المستويات.
العنوان الثالث هو الانحدار التقني. الصحافة الجديدة مدعوة، في عصر الالكترونيات والفضائيات، الى توثيق العلاقة بين الشكل والمضمون بقصد اجتذاب قراء اوفياء. وما يحدث في لبنان ان معظم الصحف تلعب لعبة الماضي بتخلف مذهل عن مواكبة العصر، وبإخراج رديء. انها صحف هابطة شكلاً ومضموناً لا تغري أحداً بالقراءة حتى لو عمدت الى التوزيع المجاني.
وفي غياب الدعم الحكومي، والتحقيقات الاستقصائية، والأداء الواقعي، كما في غياب العمل النقابي الهادف وتحوّل معظم الصحف الى ابواق دعائية فارغة لهذه الجهة أو تلك، وهذا النظام أو ذلك، لا يرجى أن يحقق الاعلام اللبناني المكتوب أي قفزة الى الأمام في المدى المنظور.
إنه إعلام فقد ريادته بعدما فقد ميزاته التفاضلية، رغم أن لبنان يملك من القدرات الفكرية والطاقات الاعلامية الكثير.
والأداء الاعلامي في لبنان عمره اكثر من150عاما، وخلال هذه الحقبة الطويلة اثبتت الصحافة اللبنانية قدرة هائلة على الصمود والتطور. وفي العام 1929 كان هناك في لبنان 271 مطبوعة تطالب بالاستقلال وترفض الأنظمة القمعية الرجعية.
حتى في زمن الحرب الأهلية كان لبنان يصدر 53 صحيفة يومية و48 مجلة اسبوعية و4 مجلات شهرية، وأكثر من 300 مطبوعة غير سياسية. وكان المفكرون العرب يتدفقون على بيروت ويدمنون على قراءة الصحف اللبنانية أو الكتابة فيها.
أكثر من ذلك، كانت هذه الصحف تسيطر سيطرة تامة على صناعة الرأي العام العربي، وتسهم اسهاماً كبيراً في نشر الوعي السياسي والتداول الحر للأفكار والمعتقدات على امتداد “القارة العربية”.
اليوم خسر لبنان هذا الدور، وصار “الفايسبوك” و”تويتر” الناطقين الأولين باسم الحريات ونشر الديمقراطية.
هل خسر لبنان سلاحه الأقوى في مواجهة الزلازل التي تجتاح المنطقة للمرة الأولى بهذا العنف منذ مئتي سنة؟


Posted

in

by

Tags: