مستقبل «الربيع»

معادلات ثلاث تطفو على سطح «الربيع العربي» في الأسابيع الأخيرة، ولا بدّ من معاينتها، لأنها علامات فارقة في مسرى التغيرات التي نشهدها.
المعادلة الأولى أن هذا «الربيع» لم يتسلل بعد الى الممالك المحافظة في المنطقة، بدليل أن الأسر الحاكمة في المغرب والأردن والسعودية ودول الخليج (باستثناء البحرين) راسخة في مواقعها، رغم بعض مؤشرات اللااستقرار بين وقت وآخر.
المعادلة الثانية أن النجاحات التي أدت الى إسقاط النظام المصري في ميدان التحرير، والنظام التونسي عبر انقلاب عسكري غير معلن، والنظام الليبي في حرب طويلة تطوع لها الأطلسي، لم تعبد الطريق الى نقل الأنظمة الثلاثة الى ديمقراطية متماسكة وفاعلة. الأمر هنا لا يشبه التحولات التي شهدتها أوروبا الشرقية في مرحلة ما بعد الشيوعية، لأن البيئة الحاضنة (أوروبا الغربية)، كما الشروط المسبقة لهذه التحولات، ليست متوافرة على امتداد المساحة العربية.
هذا يعني أن أحداً لا يستطيع أن يبني توقعات وردية على الصور المبهجة التي بثتها الـ«سي ان ان» و«الجزيرة»، أو على الرسائل المفرطة في التفاؤل التي أطلقتها حشود الشباب، من الناطقين بالانكليزية، القادرين على التواصل عبر «الفيسبوك» و«تويتر». لأن الغالبية العظمى من المصريين والليبيين والتونسيين لم تنزل الى الشوارع، وهذه الغالبية عاجزة عن الوصول الى الشبكات الاجتماعية، بل عاجزة عن الوصول الى فرص العمل والرغيف والكهرباء والمياه الصالحة للشرب، ومن المؤكد أن أموراً مثل الديمقراطية ليست في أولوية اهتماماتها.
المعادلة الثالثة- وهنا بيت القصيد- هي أن ما حصل في مصر وتونس بصورة خاصة، على طابعه المثير، بدأ بنبئ بأن حركة التغيير في العالم العربي مرشحة للاستجابة لمناخ عالمي هادر، أبرز عناوينه ترسخ قيم الديمقراطية في الوعي والسلوك، ليس فقط لدى النخب الفكرية، بل على المستويات الشعبية أيضاً. واذا كان التيار الاصلاحي العربي لا يزال يواجه صعوبات هائلة في صياغة مشروع انتقالي هادف، فإن إرهاصات هذا التوجه بدأت تظهر، ولو بشكل خجول، في القاهرة كما في تونس، ولو أن ليبيا ما بعد القذافي لا تزال غارقة في الضياع تتأرجح بين مشاريع التقسيم والتفتت، والعودة الى النظام القبلي، وهي عاجزة حتى الآن عن خلق بنية سياسية قابلة للحياة.
على نحو مماثل، لم تعد وحدة اليمن مضمونة على الاطلاق، بعدما عادت الانقسامات بين شمالها وجنوبها الى الظهور، بحدة مذهلة في المرحلة الأخيرة، في غياب دكتاتورية علي عبد الله صالح، التي صنعت «الوحدة» اليمنية من دون أن ترسيها علي أسس عادلة ومتماسكة.
وبصرف النظر عن خصوصية كل بلد عربي، يمكن القول إن صعود الأفكار والبرامج الاصلاحية في العالم، لم يتحقق إلا على حساب أفول وتراجع التيارات الدينية والايديولوجيات التقليدية، التي ألهبت الوجدان السياسي العربي لأكثر من نصف قرن، مثل التيار القومي، التيارات الماركسية والاشتراكية، التيار الليبيرالي التقليدي، والتيار الاسلامي الذي يحاول اليوم عبثاً تجديد خطابه السياسي.
إن البرامج الاصلاحية والأفكار التطويرية لا تستطيع أن تقدم نفسها بديلاً عن التيارات التقليدية، وصاحبة مشروع وطني نهضوي جديد، ما لم تتجاوز عصر الايديولوجيا، وتضمن دفعاً سياسياً جديداً يعبر عن مرحلة التحول البناء.
زمن الليبراليات والدكتاتوريات والاشتراكيات والسلفيات آن له أن ينتهي، لأن العقود السبعة الأخيرة من الاستقلالات العربية لم تورث الشعوب العربية والحكومات إلا الهزائم.
إن سحر المادية الجدلية والسلفية التنويرية لا يمكن أن يكون مرادفاً للدولة القوية والعدالة الاجتماعية، والمشروع القومي العربي وحلم الوحدة العربية لن يتحققا عبر الحنين الى الزمن الناصري، وما يحدث في كل شبر من أرض العرب يعطي الدليل على أن المعرفة ليست انجازاً ايديولوجياً أو دينياً، وأن التفوق ليس بيروقراطية حزبية جامدة أو نوماً على أمجاد قديمة.
نحن والمشروع الانتقالي العربي على موعد، ونرجو ألا نصل متأخرين.


Posted

in

by