مدينة أم أسطورة ؟

لا اعرف مدينة في التاريخ المعاصر تعيش وجعاً يضاهي وجع غزة. 
ولا أعرف مدينة تقاتل وتجوع وتنزف وتصمد وتنتفض وتنتصر وتعلو على كل الجراح مثلما تفعل غزة.
اكثر من مدينة هي , انها اقرب الى الأسطورة.

المؤرخون يقولون إن الفلسطينيين من اصل يوناني , ولأنهم كانوا يعشقون الملاحة فقد اطلق عليهم لقب «شعب البحر». عندما أبحروا من جزيرة كريت قبل الميلاد بـ1175 سنة هاجموا مصر لكن المصريين صمدوا فتراجعوا واختاروا ان يستقروا على الشاطئ الكنعاني الجنوبي بين غزة وتل ابيب. يومذاك وضعوا الحجر الاساس لدولة فلسطين.
والمؤرخون يقولون ان العبرانيين , اي القبائل اليهودية القديمة, خاضوا في العام 1125 قبل الميلاد معركتهم الاولى مع الفلسطينيين وعندما هزموا استوطنوا جزءاً من الشمال الكنعاني.
والتوراة تعترف بالفلسطينيين كشعب عريق طبع الحضارة الكنعانية بسمات متوهجة, وقد ورد اسمهم 218 مرة في 218 فصلاً توراتياً, اما اسم غزة المدينة فذكر 23 مرة.

هذه الحقائق نجدها في كل الموسوعات القديمة والجديدة حتى تلك التي تشرف عليها دور نشر يهودية.
وغزة اكثر من ذلك. انها نقطة تقاطع بين الحضارات العربية والاسلامية.
الدليل نجده في علم فلسطين: المثلث الأحمر الى اليسار يجد امتداده في ثلاثة مستطيلات متوازية أفقية, سوداء وبيضاء وخضراء. الأحمر في العلم الفلسطيني يرمز الى «البيت الهاشمي» اي سلالة الرسول, المستطيل الاسود الى العباسيين ( 750 ­ 1258) والمستطيل الابيض الى الامويين(661 ­ 750), والأخضر الى الفاطميين (969 ­ 1171). هذه الالوان مجتمعة كانت الوان ثورة 1916 التي كانت تهدف الى انشاء مملكة عربية تضم دول الهلال الخصيب, لكنها أجهضت مع الانتدابين الفرنسي والبريطاني .

بعد الحرب العالمية الثانية, وبالتحديد في العام 1948, صارت هذه الألوان الوان المقاومة الفلسطينية.
بهذا المعنى لا ترمز غزة الى الاصالة العربية والاسلامية فقط, وانما الى العمق القومي للعالم العربي وهو عمق يتمثل في مصر ودول الهلال الخصيب المحيطة بفلسطين .
غزة جنوبُنا الحقيقي وليست ذلك «الشيء الآخر» الذي لا يعنينا.
وجعها وجعنا مسيحيين ومسلمين, لأنها الوجه الآخر لـ«المدينة المقدسة», منذ ولدت المسيحية في فلسطين وجاء الاسلام .
وفلسطين المسيحية ­ الاسلامية الوفية لنفسها, كانت ولا تزال ضد الاستيطان اليهودي, منذ بدأ هذا الاستيطان في اواخر القرن التاسع عشر.
وحتى وعد بلفور ظلت فلسطين عربية بدليل انها كانت تضم عشية اتفاق «سايكس بيكو» 570 الف مسلم و75 الف مسيحي و60 الف يهودي لا اكثر.
«سايكس بيكو» الذي فصّل خريطة المنطقة على مقاس المستعمرين الجدد هو الذي قلب المعادلة في العام 1916, وحظّ فلسطين في «التفصيل» الجديد كان النكبة.
وفي مواجهة كل التغيرات الاقليمية والدولية, ظلت غزة المدينة التي لا تركع.
من ثورة الحجارة  الى الانتفاضة الثانية الى ملاحم الاستشهاد اليومي.

الارض التي جبلت بالدم والبطولات, هي بارقة الأمل الوحيدة لاستعادة فلسطين.
والمدينة التي تقاتل من اجل الخبز والحرية والكرامة, تقاتل عنا جميعاً, بأطفالها وشبابها وعجائزها ووجعها الكبير.
الذين وصلوا من بحر ايجيه, قبل الميلاد بـ1175 سنة, هم جبيننا المرفوع على امتداد حقبات التاريخ الاشوري والكلداني والفارسي والمقدوني والصلوخي والمصري والسوري والروماني , وصولاً الى الزمن العنصري الهمجي.
ويوم دمّر المسيحيون الاوائل الهياكل الوثنية في جنوب كنعان, وبنوا مكانها الكنائس, كانوا يهيئون ارض كنعان لمجيء الرسول. وعندما دخل المسلمون غزة لم يدمروا فيها اي حجر لأنها مدفن هاشم جد النبي.

مدينة البطولة التي تقدم قرابينها كل يوم على مذبح الحرية, تستحق منا اكثر من الكلام.


Posted

in

by