تعالوا نبحث معاً عن «الوزن المثالي» لموارنة لبنان، أي الوزن الذي ينسجم مع قامتهم التاريخية وحجمهم الديمغرافي ودورهم التقليدي.
هذا البحث مشروع مرتين: الأولى لأن الموارنة يفتشون اليوم عن دور في الحياة السياسية اللبنانية، بعد خمس سنوات على الانسحاب الاسرائيلي، وأقل من شهر على الانسحاب السوري. والثانية لأن هذا «الدور» لا يمكن عزله عن استراتيجية «الفوضى البناءة» أو «الفوضى المنظمة» التي دشنتها الادارة الأميركية منذ احداث ايلول (سبتمبر) 2001، ولا تزال تتعاقب فصولاً في المديين الأوروبي والشرق أوسطى.
نبدأ من التعريف القائل بأن موارنة لبنان (والعالم) جماعة دينية تشكل جزءاً اساسياً من التركيبة الطائفية والسياسية والاجتماعية اللبنانية، ارتبط اسمها منذ ما قبل الاستقلال اللبناني بتاريخ لبنان.
واحدى خصوصيات الموارنة، كما يقول انطون سعادة، انهم آراميون، أصلاً ولغة، أي سريان سوريون، وقصة دير مار مارون قرب حمص، وهرب الموارنة من سوريا الى لبنان حقيقة تاريخية ثابتة يسلم بها المطران مبارك الماروني القح وسائر مؤرخي الطائفة.
والبطريرك الماروني ليس بطريركا لكرسي لبنان، بل لكرسي سوري عام. انه «بطريرك انطاكية وسائر المشرق»، وانطاكية تقع في الشمال السوري، وقد كانت في العهد السلوقي عاصمة الامبراطورية السورية.
وباختصار شديد قد يكون الموارنة أكثر اللبنانيين الذين يحملون في ذاكرتهم الجماعية جزءاً من التراث السوري، وتاريخ طائفتهم قد يكون الأكثر اندماجاً بتاريخ سوريا، وكل محاولة لعزلهم عن هذا التراث هرطقة حقيقية بكل مفاهيم التاريخ والجغرافيا.
لا أريد هنا أن أتبنى طروحات انطون سعادة، على أهميتها من الناحية الجيوسياسية أي الحضارية، وقد كنت دائماً أنظر اليه كعالم اجتماع معاصر، من دون أن أتبنى بالضرورة مسلماته العقائدية.
لكن الحقيقة ان تقال. والحقيقة ان الموارنة الذين لا ينكر أحد صلابتهم وتفوقهم وتشبثهم بإيمانهم لم يهتدوا منذ الاستقلال الى حالة واضحة تشكل اطاراً حقيقياً لنموهم السياسي والثقافي والاجتماعي وتجذرهم في أرض لبنان، وهذه خطيئة تاريخية تسجل لكل القيادات المارونية.
انهم في اجازة دائمة حتى في أشد مراحل الصراع الداخلي والاقليمي.
وفي ظل هذه «الاجازة» هم يراهنون على المستحيل، من دون ان يملكوا وسائل تحقيقي احلامهم الكبيرة والصغيرة. ولا نريد أن نتوقف عند المرحلة العثمانية، ومرحلة الانتداب الفرنسي واخطاء «الجمهورية الأولى»، مروراً بـ«المرحلة الاسرائيلية» و«المرحلة السورية». نريد فقط أن نسجل بعض أخطاء المرحلة الأخيرة.
ولعل أبرز هذه الاخطاء ما شهدناه أخيراً في بعض الساحات السياسية المارونية، من تصعيد في الخطاب الطائفي الى درجة الكلام عن «حرب تحرير» جديدة تبدأ في فرنسا وتجتاح اوروبا وتركيا لتصل الى دمشق، من اجل فرض سيادة لبنان وضمان الموقع الماروني التاريخي في قلب هذه السيادة.
أو لعلها «حرب تحرير» أخرى تبدأ في واشنطن، مروراً بكابول وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وصولاً الى الرياض والقاهرة وبغداد… ودمشق، تحت راية «المحافظين الجدد» وأعلامهم المظفرة.
هذه الأوهام لا تلغي الحقيقية القائلة بأن استقرار سوريا شرط أساسي لاستقرار لبنان، ولو كثرت الأخطاء السورية في حق لبنان.
وهي لا تلغي بكل تأكيد مقولة ان الأنظمة والسياسات لا تبدل شيئاً من معطيات التاريخ والجغرافيا.
ولعل موارنة لبنان، أكثر من غيرهم، مهيأون لاستيعاب هذه المعادلة، بحكم التصاقهم التاريخي بالارث السوري.
لماذا كل هذا الكلام؟
بكل بساطة لأنني ماروني أرغب في الانتماء الى طائفتي، من دون أن أشعر كل صباح أنني في حالة طلاق مع نفسي، وبأنني مشروع مهاجر دائم الى الشوارع الأوروبية الباردة.
قوة موارنة لبنان، ومسيحييه بالطبع،في أنهم قادرون على الانتماء الى محيطهم، بإيجابية كاملة، وعلى تحقيق ذاتهم عبر التفاعل الخلاق مع هذا المحيط الطبيعي.
بذلك فقط يكرسون لأنفسهم دوراً لا يستهين به أحد في لبنان والمنطقة، وكل اجتهاد آخر يراهن على اسرائيل حيناً وعلى عواصم الغرب المسيحي أحياناً، نوع من معالجة الأمراض المارونية القديمة بسرطانات جديدة.
لماذا لا نسلّم، للمرة الأخيرة، بأن الوزن المثالي الماروني لبناني بقدر ما هو عربي؟
ولماذا نستمر في المتاجرة بأوهام دفعنا ثمنها حتى الآن دماء كثيرة وأوجاعاً أكثر؟