أكتب له.
قبل تسعة أشهر قال قلبه: كفى!
قالها قبل أن ينتهي القرن، هو الذي لم يعمر إلا نصف قرن.
انطفأ في عز عطائه. انكسر فجأة وهوى… وبالكاد أنوجع.
بهدوء كامل غاب مثلما عاش بهدوء كامل.
ومثلما تهب الشجرة الريح أجمل أوراقها انسلخ عنا وراح.
هل تذكرونه؟
كان صافياً، يرى بشفافية، ويصافح بتؤدة، ويخشى على وقع خطواته أن يزعج الآخرين.
كان واضحاً، إذا آمن التزم وإذا التزم تعب، وإذا نجح واصل العطاء.
كان حاداً، يقرأ بمنهجية متوترة، وإذا كتب اقتنع وأقنع.
كان نبيلاً، يسمو على الصغائر، هاجسه أن يكون كبيرا في كل شيء… وفي ضعفه كان رجل عنفوان.
كان شهماً متسامحاً، محباً في حضوره وسلوكه وأدائه، ورقيقا كريشة وصلبا كجبل.
أريد أن أكتب له في العيد.
أكتل لأقل إنني أحبه، وانني أفتقده، أنا الذي تعلمت منه الكثير:
تعلمت أن كل الناس يخطئون، بدءاً بالحكام، وأكثر من يخطئ هو ذلك الذي يدعي أنه دائماً على حق.
تعلمت أن الوطن عباءة، تبرد كتفاك إذا أنت شلحتها ولا يدفأ قلبك… ولا قدماك.
تعلمت أن المسافة بين الوطن والغربة هي نفسها المسافة بين الحرية واللاحرية.
تعلمت أن الكتابة عمل خطير، إذا أنت كتبت فعليك أن تصدق نفسك والآخرين، وإذا نافقت فأنت شاهد زور أمام نفسك، وخائن أمام الآخرين الذين هم أهلك.
تعلمت أن الصحافة هي مهنة نقل الحقيقة، أو ما يفترض أنه الحقيقة، وأن السياسيين في بلادنا يكرهون الحقائق الكبيرة والصغيرة.
تعلمت في أن أفضل الحكام من يخاف الله ولا يخاف شعبه، وأن أسوأهم من يخاف شعبه ولا يخاف الله.
وتعلمت أن الحياة، طالت أم قصرت، وقفة عز في الزمن الرديء الذي أوصل الصهاينة إلى أرضنا وهوائنا وعتبات بيوتنا ومقدساتنا… ومستقبل أولادنا.
منه تعلمت كيف تكون نظافة القلب والعقل واللسان… وصفحات الجرائد السوداء.
في العيد أشتاق إليه، يقرأ ويكتب وتتراكم على صدره الهموم والهواجس.
لم يكن سائحاً في الوطن، كان وفيا لأوجاعه، ووفيا لنهجه الفكري وقناعاته، وصادقا حتى العظم.
ووفاؤه هو الذي قتله.
عاد إلى الأرض التي أحب، والذكريات التي أحب، والرفاق الذين أحب… فخذلته شرايينه في اللحظة المفصل.
عاد… ولم يعد.
إلى اللقاء يا أخي.